أكل أرض كربلاء.. وكل يوم عاشوراء!

TT

أشارت الحوادث إلى انطلاق مراسم عاشوراء من أرض العراق، من قبل نشرها ببغداد إبان العهد البويهي السنة 353هـ، وتطعيمها من قِبل الشعوب الأخرى بما لديها من مظاهر جلد الذات. ولسُنَّة العراق، خارج المؤثر السياسي، طرائقهم في استذكار مأساة كربلاء. عبر ترنيمات حزينة: «ابكربلا ماتوا جدودي.. ما سقوهم ماء جود.. يا دموع العين جودي.. على الحسين بن علي» (حمودي، عالم التكايا). وما سمعناه في المنقبة النبوية: «حرموه شرب الماء حتى عياله.. وجالوا عليه بالسيوف قتيلا». ومنها: «الله قطُ قلبي عنكم بما سلا.. يالنازلين في نواحي كربلاء». ومن ترانيم السُنَّة المعظمة للأئمة الأثني عشر: «الباقر الحبر الفهيم العَالم.. والجعفر الصادق وموسى الكاظم». هؤلاء هم الناس خارج حمأة الطائفية، ولغة التكفير.

وقرباً للحسين وذكراً لكربلاء قال الشاعر السُنَّي البصير المَوْصلي (ت 1762) في أرجوزته: «ثم الصلوة أزكاها على.. جدَّي ومن قد حوصروا في كربلاء» (الأثري، ذرائع العصبيات). ومما كتبه الشيخ اللبناني السُنَّي عبد الله العلايلي (ت 1996) صاحب كتاب «الإمام الحسين»: «فيا كربلاء كهف الإباء مجسماً.. ويا كربلاء كهف البطولة والعلا»، بل تعدى التعاطف مع كربلاء إلى ديانات العراق الأخرى. فهذا العراقي اليهودي مير بصري (ت 2006) كتب في أرجوزته «مواكب العصور»: «أنا للحق أنا سبط الرسول.. أنا للعدل وللدين قويم.. يا لأرض قد تروت بالدماء.. وقف الدهر أسى في كربلاء».

وأخيراً ليست بعد قصيدة «آمنت بالحسين» لمحمد مهدي الجواهري (ت 1997) شجناً، وهو من خارج الوسط الديني، ومن أهل اليسار فكراً لا حزباً. ومَنْ زار الضريح رآها منقوشة على بابه الرئيسي بالذهب. مطلعها: «فِداءٌ لمِثواك من مَضجَع.. تَنَوَّر بالأبلجِ الأروعِ». أما قصة المقتل فربما سبق إلى تأريخها، وبانحياز للحسين، أحد أئمة السُنَّة ابن جرير الطبري (ت 310 هـ) في «تاريخ الأمم والملوك» كاملة، وبكل عذاباتها، مثلما يُترنم بها من على المنابر الحسينية.

بعد هذا أليس الناس شراكة في استذكار الحسين، كلا على طريقته؟ فكيف يُكفر مَنْ يحبه، وكيف يوصف بالناصبي مَنْ يحبه أيضاً! وإن كتب مير بصري رثاءه للحسين بتأثير التعايش الطويل، إلا أن الجماعات الدينية غير المسلمة بالعراق اليوم تضطر إلى رفع اللافتات فزعاً مما حولها من مخاطر، بعد تعرضهم للقتل والتهجير. مثل: «الصابئة المندائيون يعزون الإمام المهدي المنتظر باستشهاد الإمام الحسين»! للأسف، لقد أنزلوا فكرة المهدي، واستشهاد الحسين إلى مستوى لافتات البعث، إذا لم ترفعها فأنت ضد خط الثورة!

كربلاء أرض أريد لها أن تذكر كلما ذُكرت المظالم، وأُرخت المقاتل. وربما أعاد عبرها العراقيون تراثا رافدينيا جنوبيا قديما، فهناك مماهات شديدة المثول في الحدث، بين مأساة دموزي أو تموز ومأساة الحسين. ولا أريد تكرار ما أفضت به في كتاب «المباح واللامباح» فصل «خلود الفداء والعطش»، إنها حالة وجدانية تحولت إلى ما يمكن تسميته بالحزن النبيل، لولا ما داخلها من ممارسات تعكر صفاء العاطفة، وتهدم ثوابت التعايش مع الآخر.

تعددت أسماء كربلاء: الغاضرية، النواويس (قيل مقبرة مسيحية قبل الإسلام)، نينوى (ربما أقام فيها الآشوريون بعد خراب عاصمتهم)، عمورا، الطف (الكليدار، تاريخ كربلاء. والطعمة، تراث كربلاء). أما أصولها القديمة، وهي من دائر أرض بابل، فتذكرها المصادر بـ«كربا ـ أيلو»، ومعناها «قُرب الإله». كذلك فسر اسم كربلاء بمأساتها (61هـ)، فروي أن الحسين قال عندما نزلها: «كرب وبلاء». وقولة الشريف الرضي (ت 407هـ) في مراثيه «كربلا ما زالت كرباً وبلاء» مشهورة.

جرى استذكار الحسين بين تيارين: تيار يريدها ممارسة متحضرة، وآخر لا هم له غير إثارة العاطفة. دُعم الأول بفتاوى العلماء: أبو الحسن الأصفهاني (ت 1947)، محسن الأمين (ت 1952) وغيرهما. كذلك لا تغفل محاولة صاحب العِمامة السوداء محمد علي هبة الدين الشهرستاني (ت 1967) في عصرنة العوائد. «قلب سيرة الكاظمية في اليوم العاشر من المحرم، من ضرب القامة، إلى إقامة حفل عظيم تُتلى فيه أسرار نهضة الحسين من قِبل أعلام الكُتاب والشعراء، وثابر على ذلك سبعة أعوام... ليقلب صفحة التفكير، ويوقف الناس على فهم الدين، وما يريده الأئمة (ع) من سعادة للناس لا أن يشقوا ويتعسوا، ولكن المغرضين وأرباب الأطماع لم يرق لهم ذلك» (الخاقاني، شعراء الغري).

وهذا ما يحصل بقوة بعراق اليوم، فالسياسة والتحزب يحتاجان اللطامين وحاملي شعارات الثأر، وليسا بحاجة إلى هبة الدين، صاحب مجلة «العلم» (الدنيوي)، التي صدر عددها الأول بالنجف 1910. وحتى لا يطعن متعصب قومي على الرجل بسبب لقبه، أقول أن هبة الدين عراقي عربي، ولد بسامراء، وكان أجداده نقباء بالبصرة، وسكن جده الأعلى كربلاء، ويُعرف بالحسيني، أما هو فأخذ لقب الشهرستاني عن أخواله، وتبوأ منصب وزير المعارف في العشرينيات.

ونحن نستذكر عاشوراء بين تيارين، لا بد من وقفة اندهاش أمام تعالي الإمام الرابع علي بن الحسين السجاد (ت 95هـ)، على لغة «كل أرض كربلاء وكل يوم عاشوراء». وقد لا يتمكن من ذلك إلا بشر سرت في عروقه الإنسانية بكل تمدنها، وتجاوز به الإيمان إلى محبة العدو، مثلما أرادها أنبياء من قَبل. ذلك عندما تقدم الإمام بالدعاء لأهل الثغور. قال: «أللهم صَلِّ على محمد وآله، وحَصِّن ثغُور المسلمين بعزَّتك، وأيد حُماتها بقوَّتك، وأسبغ عطاياهم من جِدَتك...» (الصحيفة السجادية). ومعلوم كان أهل الثغور جُندَ الأمويين على الحدود، وتحت قيادة رجالات البيت الأموي مباشرة! وكان السجاد شاهداً على آلام آل بيته بكربلاء! إلا أني أراه قد اكتفى بما قتل من قتلة والده، ولم يبق ما تتحمله الأجيال، حتى يُعبئ عاشوراء اليوم بشعار التوابين «يا لثارات الحسين».

قصارى القول: هل ستتنبه الأحزاب، والجماعات الدينية الشيعية، ومرجعية المذهب إلى تلك الممارسات، ومحاولة إحياء تجربة السيد هبة الدين مثلا؟ وها هي فرصة التأثير سانحة لها عبر السلطة والثقافة والإعلام. وهل تتنبه إلى أهمية أن يبقى الحسين مشتركاً بين العراقيين، ولا توظف مأساته سوطاً للغلبة والسلطة؟ ذلك بعد تأمل دعاء الإمام لأهل الثغور، وهو يمحو مفردة الثأر والثارات. لو تحملت تلك القيادات مسؤوليتها، وفصلت بين الدولة وشعار «كل أرض كربلاء...». أرى الأمر ملحاً، والعراق يعاني ما يعاني من وشل حضاري!

[email protected]