دفاتر المجانين

TT

قيل قديما: «الجدران دفاتر المجانين»، وفي زعمهم أنك إذا أردت قياس نسبة الجنون في مدينة ما تأمل مدى نظافة جدران مبانيها، فإن وجدتها حافلة بالقلوب، والأسهم، وأسماء نجوم الكرة، وعبارات الغزل مثل: «تبيني وإلا أطب البحر»، فاعلم أن أمامك واحدة من اثنتين؛ أن تذهب فورا لشراء فرشاة وألوان لممارسة إبداعاتك على أقرب جدار، وفق قاعدة إن كنت في روما فافعل ما يفعله الرومان، أو أن تشتري ـ أيضا ـ فرشاة وألوانا، وتقوم بطمس ما خطه المجانين على الجدار.. خياران: الأول يمنحك العضوية الكاملة في نادي المجانين، والثاني يزودك بشهادة نصف عاقل فقط!

هذه الرؤية التقليدية التعقيدية للمسألة جعلتني أطرب كثيرا لخيار ثالث ابتكرته ـ أو قلدته ـ أمانة مدينة جدة، وهي تعتزم تخصيص 50 موقعا في المدينة للكتابات الجدارية، بهدف وقف التشويه في البيوت والشوارع والمجسمات الجمالية.. وحسنا فعلت الأمانة وهي تخبرنا بأن أبطال هذا العبث في هذه المدينة العاقلة هم بعض مجموعات من الشباب أرادت أن تعبر عن ذاتها بطريقتها، فأخطأت الوسيلة وضلت الطريق. ونجحت الأمانة في احتضان أشهر هذه المجموعات الشبابية، وتفهم دوافعها وغاياتها. هذا الأسلوب السيكولوجي الرائع الذي اعتمدته الأمانة في التعامل مع هذه المسألة من شأنه أن يمنح هؤلاء الشباب الإحساس بالمسؤولية تجاه مدينتهم ومجتمعهم.

ولو أن أحدا حاول قراءة تلك الصور، التي نشرتها الصحافة المحلية لمسؤولي الأمانة مع بعض أولئك الشباب، فلا بد أن تستوقفه حتما ملامح الدهشة على تلك الوجوه الغضة، وهم يواجهون بالصفح بدلا من العقوبة، وبالتفهم بدلا من اللوم، وبالتشجيع على التغير بدلا من التقريع على الخطأ، ولا ينتابني أدني شك بأن شعورا بالرضا أيضا يغمر المسؤولين في الأمانة لنجاح أسلوبهم الحضاري في التعامل مع هذه الإشكالية المرهقة، خاصة أن الجدران في بعض أحيائنا الشعبية قد تحولت إلى ما يشبه دواوين تلك الحارات، فإن أحب أحدهم رسم على الجدار قلبا وسهما وقطرات دم، ثم نقش الحرف الأول من اسمه واسم حبيبته، وإن فاز فريقهم في كرة القدم امتلأت شوارع الحي بعبارات التشجيع والإشادة، وفي ظنّي أن عمّال البلدية ينشغلون بصورة شبه يومية في مسح تلك القلوب والأسهم من الأزقة والشوارع، ففي الزمن الوقور تكفي مثل تلك الرسومات لخدش الحياء.

أشيد بهذا الأسلوب غير التقليدي الذي اتبعته أمانة جدة، وأتمنى أن يصبح هذا الأسلوب الإبداعي منهجا في مواجهة الكثير من مشكلات المدينة.

[email protected]