العراق: نظرة جديدة في موزاييك الحرب

TT

ظل الزعم بأن العراق، خلال السنوات الأربع الماضية، في حالة حرب أهلية أو يتجه إليها، موضوعا لجدل سياسي في واشنطن. وكان أول من طرح هذا الزعم عام 2003 هو هوارد دين الرئيس الحالي للحزب الديمقراطي، بينما كان يحاول الترشيح للرئاسة. ومن يومها أصبحت عبارة «الحرب الأهلية في العراق» عبارة مكررة تستخدم من جانب أولئك الذين يرغبون في ان يظهروا أنهم عارفون بالموقف. كما أنها أصبحت شعارا لأولئك الذين يعتقدون أن العرب عموما، والعراقيين خصوصا، عاجزون وراثيا عن العيش بدون مستبدين متعطشين للدماء. ويأتي مثل هذا الزعم الأخير من معهد بروكينغز، وهو معهد للأبحاث في واشنطن، ونراه يحذر وفي دراسة جديدة، أن العراق ينحدر نحو حرب أهلية.

ويحجم المعلقون الأميركيون الأكثر احتراسا عن الحديث عن الحرب الأهلية. وهم يفضلون «الحرب الأهلية»، ولكنهم ينتهون إلى التوصل الى الاستنتاجات ذاتها: العراقيون سيئون إلى حد كبير، ومن الأفضل تركهم إلى المعاناة من تعصبهم وعنفهم.

غير أن الحقيقة هي أنه، على الرغم من أن هناك قدرا كبيرا من القتل في العراق، فإنه ليست هناك حرب أهلية بأي معنى من المعاني.

والزعم بأن العراق يعاني من حرب طائفية زعم يصعب الدفاع عنه أيضا. وعلى الرغم من أن هناك الكثير من القتل الذي تحفزه الكراهية الطائفية، فإن ما نجده في العراق اليوم هو حرب طائفيين وليست حربا طائفية.

والفرق ليس مسألة شكلية.

ففي الحرب الطائفية فإن الأغلبيات الساحقة للطوائف الدينية المتخاصمة، تسعى إلى أهدافها الخاصة وتشارك بنشاط من اجل تحقيقها. وقد شهدت هذا في يوغسلافيا السابقة عندما كنت أغطي الحروب المختلفة في سنوات التسعينات. ويمكن للمرء أن يكون واثقا بأن كل الصرب تقريبا، من سائق سيارة الأجرة الذي يأخذك من المطار إلى الفندق إلى ابرز شاعر في البلاد، يمكن أن يكونوا طائفيين، يكرهون الكرواتيين والمسلمين بمشاعر لا يمكن التحكم فيها. والعكس صحيح أيضا. فمعظم الكرواتيين والمسلمين، وبينما يكرهون بعضهم بعضا، كانوا يحلمون أيضا بسحق الصرب كأمة. فالفلاحون وعمال المصانع وفقراء المدن وأساقفة الكنائس ورجال الافتاء المسلمون والفنانون والمخرجون السينمائيون وراقصو الباليه والطهاة كلهم طائفيون.

ولا شيء من هذا النوع موجود في العراق اليوم. فمرض الطائفية المهلك لم يصب بعدواه الأغلبية الساحقة من العراقيين بغض النظر عن الانتماءات الدينية. فالشيعة والسنة منظمون على أساس الانتماءات السياسية، وليس الولاءات الطائفية.

ومن الناحية السياسية ليس هناك الكثير مما هو مشترك بين اياد علاوي ومقتدى الصدر. ووضع عادل عبد المهدي مع ضياء عبد الزهرة، زعيم مجموعة جند السماء في النجف في سلة واحدة، سيكون شيئا أحمق وغير سليم. وعلى الجانب السني فإن الناس يعرفون أن جلال الطالباني سني كما هو حال صالح المطلك أو عدنان الباجه جي. ولكن سيكون من الخطأ في التحليل وضعهم سوية في الفئة السياسية ذاتها. ولا حاجة بنا الى القول إن أيا منهم يمكن أن يوضع سوية من بقايا الصداميين او القاعدة على اساس الانتماء الطائفي.

والحكومة الحالية في بغداد هي تحالف لكثير من الأحزاب والجماعات السنية والشيعية والكردية. ومن الصحيح القول ان بعض أعضاء هذه الحكومة يتصرفون كطائفيين. ولكن حتى في هذه الحالة، فإن طائفيتهم تأتي في صيغة المحسوبية والمنسوبية، التي تهدف الى تفضيل عوائلهم وعشائرهم، أكثر من الاعتبارات الدينية. والصراع بين الجماعات المختلفة، تحركه اعتبارات اجتماعية واقتصادية وسياسية أكثر من الاعتبارات الدينية.

وعلى خلاف يوغسلافيا السابقة في سنوات التسعينات، فإن عراق اليوم لم يصب بالطائفية على مستوى القاعدة الاجتماعية. ولا تمارس الجدات العراقيات صلاة خاصة يطلبن فيها من الله أن يحطم الطائفة المنافسة. ولا يكتب الشعراء العراقيون شعرا طائفيا. ولا يصور الفنانون العراقيون أفراد الطائفة الأخرى باعتبارهم أشرارا. ولم يكن أي واحد من أفراد العصابة الذين فجروا مرقد القبة الذهبية في سامراء من العراقيين.

يعرف أي شخص على دراية بالوضع أن هناك عددا كبيرا جدا من الحالات التي حمى فيها الشيعة والسنة بعضهم البعض من عنف الجماعات الطائفية الإرهابية. ففي محافظة الأنبار حيث يشكل العرب السنة 95 في المائة من عدد السكان، هناك العديد من المناطق السكنية الشيعية التي تمكنت من النجاة بفضل حماية العشائر المحلية. وفي بعض الحالات قاتلت العشائر السنية إرهابيي القاعدة، لمنعهم من قتل الشيعة.

ينسى الناس حقيقة أن الكثير من العشائر العراقية هم من السنة والشيعة، وهناك عشرات الآلاف من العوائل المختلطة من السنة والشيعة خصوصا في بغداد والبصرة.

وفي الكثير من الحالات وقع قتال ما بين ميليشيات متنافسة ضمن ذات الطائفة. فعلى الجانب الشيعي هناك ميليشيا الصدر أي جيش المهدي، وهي مزيج من جماعات مسلحة أكثرها تحت سيطرة إيران، وظلت تتصادم مع لواء بدر، وهي ميليشيا أخرى تحت السيطرة الإيرانية، ويقودها عبد العزيز الحكيم.

وفي بداية هذا الأسبوع، قُتل مئات من رجال الميليشيا على يد قوات عراقية وأميركية كانوا يتبعون دجالا يدعي أنه آخر الأئمة. لكن حسب السلطات العراقية، هناك الكثير من الإرهابيين تم قتلهم مع هذه المجموعة، بمن فيهم أشخاص قادمون من السودان والجزائر.

جرى تشريد أكثر من مليون عراقي نتيجة للعنف الطائفي، وهناك حالات من التطهير الاثني من خلال قسر العوائل المنتمية إلى عشيرة واحدة إلى مغادرة مكان إقامتها. لكن حتى مع حالات من هذا النوع، فإنه من الصعب القول إنها كانت لأسباب طائفية. ففي بعض أماكن من البصرة وبغداد، أجبِرت عوائل سنية على مغادرة بيوتها تحت تهديد فرق الموت الشيعية. لكن في معظم الحالات تنتمي فرق الموت هذه إلى مجموعة واحدة: إنهم الصدريون الذين يرغبون أن يطرحوا أنفسهم بأنهم الأكثر فعالية في الدفاع عن الشيعة ضد التهديد السني المتخيل. وفي أماكن أخرى مثل كركوك يجبر الأكراد العرب السنة والشيعة على مغادرة مساكنهم، والدافع ليس دينيا بل عنصريا. كذلك يعمل التركمان في كركوك وهم شيعة وسنة، على أساس اثني لا ديني.

بلا شك هناك حرب في العراق. إنه من الضروري معرفة أي نوع من الحروب هي.

* فإذا كانت حربا أهلية، فعلينا أن نشخص الطرفين المتصارعين، وتحديد مع أي طرف نحن يجب أن نصطف حتى تحقيق النصر.

* وإذا كانت حربا طائفية، فإن الطريقة الوحيدة لإنهائها هي من خلال الفصل الجغرافي، مثلما هو الحال ما بين الكرواتيين والصرب، من خلال احتلال أجنبي مكثف للمنطقة، كما هو الحال في البوسنة والهرسك. (هناك أكثر من 50 ألف جندي من قوات الناتو في تلك المنطقة، حتى بعد مرور أكثر من عقد على تدخل القوى الغربية في الحرب الطائفية. وحجم العراق يزيد بتسع مرات عن البوسنة والهرسك، لكن عدد القوات الأجنبية فيه، لا يزيد عن 150 ألف جندي). ما يحدث في العراق هو ليس حربا طائفية، حتى مع توفر عناصرها ضمن سياق أوسع. فالحرب هي سياسية بين أولئك الذين يتمنون أن تنجح تجربة العراق الجديد، وهؤلاء يمثلون أغلبية العراقيين من كل الطوائف والاثنيات، وأولئك الذين يريدون فشل التجربة، وهؤلاء يضمون الصداميين المتشددين وبعض القوميين العرب المخدوعين، مع فرق الموت التي تمولها طهران، وعددا من الجماعات الإرهابية غير العراقية، التي جاءت إلى العراق للقتل والموت باسم رؤيتهم المشوهة للإسلام. الحرب في العراق هي جزء من حرب أوسع ضد الإرهاب وقواه المظلمة الكثيرة.