من إيران إلى فلسطين ولبنان: حديث العواصف والرياح

TT

تهب علينا في العالم العربي رياح عاتية وخبيثة ومجنونة، تزداد ضراوة وتهدد بعواصف مدمرة تكاد تقتلع التاريخ من جذوره، وتستخرج منه اسوأ ما كنا نعتقد انه دفن وانتهى من معارك قادتنا الى كوارث ونكسات، وتغير في جغرافيا استقرت طويلا، وتقلب مفاهيم كثيرة كنا تصورنا أنها ـ مثل التاريخ والجغرافيا ـ قد استقرت بعد مراحل من اضطراب. وتتراكم الأخطاء وتتفاعل متيحة الفرصة لقوى خارجية متربصة تستغل نوازع شر تنبت كالسموم في صفوفنا، لكي تلعب ألاعيبها القذرة، وتزيد من عمليات التهييج والفرقة وتنصب الفخاخ التي تقودنا إليها أخطاؤنا بل خطايانا، فنسقط فيها مع أننا بالقطع نستطيع أن نتجنبها. وأعتقد انه ما زال في قدرتنا أن نهزم هذه الأوضاع على الأرض إذا قاومناها أولا في عقولنا، مدركين أن توحدنا لتجاوز الاختلافات الفرعية، ودفن نزاعات الماضي التي لم يعد الزمان أو المكان يتطلبها ـ كفيل بحمايتنا جميعا لأننا ـ شئنا أو أبينا ـ في سفينة واحدة، يجب أن يتصالح ركابها ويتعاونوا ليتعاملوا مع الأمواج العالية التي تجعل البحر خطيرا لا يهدد راكبا وحده بل كل الركاب.

أنظر الى فلسطين، فأشعر بالأسى لأن الأمور وصلت الى حد الاضطرار الى إعلان اتفاق لوقف النار وتبادل الأسرى والمخطوفين الذين أسمتهم وسائل الإعلام بالرهائن، وكأن المدافع قد اتجهت من الشقيق الى الشقيق معطية الفرصة لعمليات خائبة ضد العدو الحقيقي لا تفيد في هذه المرحلة إلا لإعطائه الفرصة لمزيد من العدوان والتخريب. وأقول يؤسفني أن تصل الأمور الى هذا الحد، ومع ذلك فان نجاح الوساطة المصرية أمر قد يبشر بإمكان تجاوز مرحلة الجنون الذي أسال دماء الأشقاء رافعين السلاح بعضهم ضد البعض الآخر والدخول في مرحلة جديدة ـ مثل لقاء مكة ـ تعيد البوصلة الى اتجاهها الصحيح، وتستخلص الهدف الموحد من براثن العواصف وهو التخلص من الاحتلال وبناء الدولة الفلسطينية الحرة المستقلة التي تعيش في أمن وسلام يغطي كل أبنائها ويبني لهم المستقبل الذي حرموا منه لسنوات طويلة من المعاناة والأخطاء والمؤامرات. إن هذا الحديث ليس حديثا في السياسة، بل هو وما سيليه من أحاديث هو صرخة ألم لما وصلت اليه أحوالنا، لأن بعضنا تاهت من قلبه وعقله الطريق وتصور أنه يستطيع ان ينجو وحده، متناسيا ان الانتصار على الأخ ليس إلا حصاد الهشيم، أو ركوب قارب نجاة لا يلبث أن يغرق بدوره مدفوعا الى القاع بقوة الموجة التي تتكون من غرق السفينة.

إن ما يحدث في لبنان هو مثال على ذلك، قد نكون اختلفنا على ما سبق حدوثه، وقد نكون أعجبنا بقيادة حسن نصر الله والمقاومة الشجاعة للغزو الإسرائيلي الذي واجه فشلا لم يكن يتوقعه. ولكن عندما جاء وقت استخدام النجاح في بناء الدولة المستقرة الآمنة، رأينا حزب الله يبدد جزءا كبيرا من رصيده الذي كان المفترض أن يكون رصيدا للبنان كله. ولا يعني هذا أن الآخرين لم يرتكبوا أخطاء أو يقعوا أيضا في خطايا، ولكنه يعني انه من الضروري أن يعيد الجميع حساباتهم ليخرجوا بها من الطريق الضيق ذي الأفق المسدودة الى ما يساعد على اعادة بناء لبنان الذي نتمناه ونحتاجه والذي سقط من أجله شهداء نعتز بهم جميعا. وأعتقد ان ذلك لن يكون ممكنا إلا بجهد عربي حقيقي ومستمر تقوده الدول الأكثر تأثيرا ولكن يشارك فيه الجميع من أجل مصالحة حقيقية قد لا تمسح بالضرورة كل جراح الماضي القريب والبعيد، ولكنها قطعا تساعد على تجاوز بعض ما ترسب في النفوس والتخلص مما علق بها من أوزار. ولا أتصور أن لبنانيا (بعد كل ما حدث وما زال يهدد بالحدوث) يمكن ان يتأخر في الاستجابة الى جهد حقيقي يتجاوز رواسب وأطماعا لينظر الى الأمور في أعماقها وليس بسطحية ضيق الآفاق.

وفي العراق يتساقط المئات كل يوم بشكل مخيف وتزداد الفجوة بين أبناء الشعب الواحد، تقسمه ليصبح كل جزء منه قاتلا وفريسة في نفس الوقت. وقد فتح الغزو الأمريكي بغبائه وبسوء نواياه ومبرراته المختلقة التي تخفت وراء ستائر من المبررات الكاذبة ـ أبواب جهنم التي تجاوزت الحدود لتعيد أصداء فتن كنا نظن ـ ومازلنا ـ أن أوانها قد فات، وكان المفروض أن ندفن ما تبقى منها، فإذا بنا ندفن المئات من ضحاياها الجدد سقطوا دون مبرر حقيقي، بينما كان المتصور أن يلتقوا جميعا لمواجهة الغزو (الذي بدلا من أن ينحسر نراه يتجدد) ويوحدون صفوفهم لإعادة بناء دولتهم التي خربها صدام حسين وجاء الغزاة ليزيدوا في تخريبها عن طريق تمزيقها. ولا أتصور أن من المنطق أن يحاول البعض منا أذكاء الحرائق الماضية بين السنة والشيعة التي كان من المفروض أن تتحول مع الزمن إلى مجرد خلافات مثل مئات الخلافات الأخرى التي لا تؤدي الى إسالة الدماء، وليس الى معارك يحاول البعض استغلالها ليس فقط لتقسيم العراق، بل لتصدير ذلك الاحتقان الى دول لم تعرفه بل استطاعت كمصر أن تتجاوزه بأن جمعت بين أفضل ما في المذاهب من مبادئ حتى قيل إنها سنية المذهب شيعية الهوى بكل ما يؤكده ذلك من نبذ الخلافات غير المبررة والنزاعات التي فات فعلا زمانها وأصبح الانشغال بها جريمة في حق الإسلام والمسلمين وفي حق الأوطان والأمة العربية كلها. وأنا بصراحة لا أفهم ان ينشغل أحد في القرن الحادي والعشرين بنشر مذهب معين لتأكيد ذاتيته أو يعزز نفوذه ولا أتصور أن يلجأ أحد لذلك، فالدول يتحدد نفوذها بما تمثله في الواقع الحالي وفي التاريخ، وقدرتها على البناء، وتقوم العلاقات بينها على توازنات تتحقق عن طريق الحوار والبحث عن المصالح المشتركة أو على الأقل عن المصالح غير المتصارعة.

ولست أظن ان دولة مثل ايران يمكن أن تتصور أنها تستطيع سواء عن طريق الدين، أو عن طريق القوة، أن تسيطر على المنطقة، رغم أنها تثير أحيانا ببعض تصرفاتها قلق أو مخاوف جيرانها، كما أني لا أعتقد أن أحدا يريد أن يحرم إيران من حقها في أن تعيش داخل اقليمها. واذا كان البعض يتحدثون عن الشرق الأوسط الكبير أو الموسع ـ لأسباب نعرف خبثها وأهدافها ـ فان الواقع من المصلحة العربية يقول ان دولا مثل تركيا وايران ـ وهي دول الجوار العربي ـ علينا ان نقيم معها حوارا ينبع من مصالحنا وليس من مصالح غيرنا، ويستهدف تبديد المخاوف الحقيقية وليس المخاوف التي يحاول آخرون زرعها في النفوس. ويقتضي هذا جهدا عربيا موحدا وحقيقيا، يتحاور مع الجيران لتحديد ما هو مقبول وما هو مرفوض من أدوار ومواقف وتصرفات، وذلك بناء على تحديد المصالح المشتركة فيتم تعميقها، وتحديد مواطن النزاع المحتملة فنعالجها، من دون أن نتغاضى عن بعض خطوط التماس التي تمر ببعض الدول العربية. وليس من المنطقي أن نرفض الحوار أو نخشاه، فنسمح لمخاوف حقيقية أو وهمية أن تتراكم، وقد حاورنا في الماضي وما زلنا نحاور أعداء لنحاول ـ احيانا دون جدوى ـ أن نجعل منهم أصدقاء ـ ولكن هذا لا يعني عدم المحاولة، ومن باب أولى ألا نستثني أحدا من ذلك مهما كانت الرواسب، وألا نخلط بين أمور لا يصح ان نضحي بسببها بمصالحنا استجابة لأوهام أو أشباح أو مركبات نقص.

لم يكن هذا حديثا في السياسة بقدر ما كان حديثا عن مخاوف حقيقية من أن نركز على الشجرة وننسى الغابة، وعن آلام عميقة من احتمال أن نضحي بما هو صحيح في سبيل ما نتصور خطأ أنه صحيح.