ما بين اغتصاب الوطن واغتصاب المواطن

TT

تفاقمت الأزمة الداخلية الإسرائيلية أفقياً وعمودياً إثر الحرب الأخيرة التي شنتها اسرائيل على لبنان، سياسياً وعسكرياً، اجتماعياَ وأخلاقياً، حتى غدا اليوم الذي تخرج به صحيفة إسرائيلية بدون عنوان عن تورط مسؤول أو وزير، أو رئيس حكومة أو رئيس دولة، بقضية فساد أو أخلاق أو إساءة الإئتمان أو سوء الأدارة، يوماً استثنائياً.

ثم ها هي الاستطلاعات الإسرائيلية تكشف كم هي عميقة أزمة الثقة بين الجمهور الإسرائيلي وقيادته. انعدام ثقة مطلق برئيس الوزراء ووزير الأمن ورئيس الدولة والشرطة، وزيادة خيبة الأمل من «البقرة المقدسة» وهي الجيش، وعلى رأسه رئيس أركانه «المستقال» (المستقيل ـ المقال)، ناهيك من انعدام الثقة بالكنيست والمصارف ومؤسسة ضريبة الدخل والوزراء، وغيرها.

ما من شك بأن العدوان على لبنان والفشل العسكري الإسرائيلي أشاعا جواً من الإحباط في الشارع الإسرائيلي، وزادا من رغبة الناس بالبحث عن رؤوس للإطاحة بها، «رغبة الشارع» كما يقولون. الرأي العام الإسرائيلي هو الشارع، وللشارع وزن في اتخاذ القرار، والتأثير على عملية صنع القرار. بمعنى أن المواطن الفرد، والمواطنين الجماعة، ليسوا عبئاً على الدولة وصناع القرار، بل هم عامل حاسم في اتخاذه والخوف من إرهاصاته عبر ردة فعل المواطن.

يحدث كل ذلك وقد تفاخرت إسرائيل دوماً بأنها الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، بل انها قدمت العظات وزايدت على كل دول المنطقة بأنها شفافة ونظيفة، بالمقارنة مع الفساد المستشري في العالم الثالث، وتحديداً في بعض الأنظمة العربية (إن لم يكن أغلبها).

إن سيل الأخبار والفضائح التي تجتاح إسرائيل خفّف ربما قليلاً (ليس تماماً) من عنجهية الإسرائيلي و«فذلكته» أمام الآخر العربي، وتحديداً الفلسطيني. فبعض الإسرائيليين أصبحوا اليوم يرون في دولتهم واحدة من دول العالم الثالث من حيث المحسوبيات وانتشار الفساد في أروقة السلطة ومؤسسات الدولة.

ومن جهة أخرى أقرأ ما يكتبه بعض أصحاب الأقلام في الصحافة العربية يبشرون بزوال إسرائيل ونهايتها القريبة بمجرد قيام الإعلام الإسرائيلي بنشر هذه الفضائح وفضحها، إلى درجة ذهب فيها الأخ إسماعيل هنية رئيس الوزراء في السلطة الفلسطينية إلى القول علناً: «ماذا تقولون عن كيان قيادته زنوية؟»، وكأن «الكيان» كله آيل للسقوط أو في طريقه إلى ذلك، أو أن ذلك يقلل من شرعية إسرائيل أمام المجتمع الدولي أو قبولها دولياً.

إن دولة إسرائيل، التي تسمي نفسها ديمقراطية ليبرالية، بعيدة عن الديمقراطية المطلقة أو الشاملة، بمعنى أنها تدير نظاماً احتلالياً ضد الفلسطينيين، بينما الاحتلال هو أسوأ النظم الديكتاتورية في العالم. وكذلك تنتهج سياسة تمييز عنصرية تجاه مواطنيها العرب في كل مجالات الحياة. بل ان الكنيست شهد أخيرا سيلاً من القوانين العنصرية المعادية لكل ما هو عربي. إسرائيل في واقع الأمر هي ديمقراطية عرقية، بمعنى أنها ديمقراطية تجاه مواطنيها اليهود، وعنصرية تجاه مواطنيها العرب (Ethnocracy).

ومن باب النقد الذاتي نقول كل ذلك لنكون صادقين مع أنفسنا، ونرى كل أجزاء الصورة بدلاً من اجتزائها. إسرائيل ليست آيلة للسقوط بالرغم من أمراضها، وكيانها المبني على النظام الديمقراطي البرلماني هو أقل سوءاً «بكثير» من الأنظمة الدكتاتورية التي تقمع مواطنيها، ولا تأبه لرأيهم أو تعيره وزناً. وما من شك بأن مسلسل فضائح الفساد المالي والاخلاقي وأزمة القيادة ليس حدثا استثنائيا عارضا، بل هي عوارض لأزمة بنيوية عميقة تجتاح النظام في اسرائيل، ولكن الكشف عنها لا ينم عن حالة ضعف قاتل، بل عن رغبة لتصويب الخلل ومعالجة المرض، مهما كانت عملية الكشف محرجة ومؤلمة.

ان دولة تحاكم رئيسها الذي كما يبدو اغتصب واحدة من مواطناته (أو أكثر) هي أكثر قوةً وتماسكاً من دول يغتصب زعماؤها الوطن والمواطن، بدون أن يسألهم أو يسائلهم أحد، بل إنهم يكتفون بالزج بالسجن بالمواطن الذي يسرق دولاراً، أو يقول رأياً مغايراً، ويطبطبون على سارقي الملايين وناهبي موارد البلد،

«فالسجن والموت للجانين إن صغروا

والمجد والفخر والإثراء إن كبروا

فسارق الزهر مذموم ومحتقر

وسارق الحقل يدعى الباسل الخطر»

كما أبدع جبران في قصيدنه الرائعة .

إن صحافة، وإن كانت منحازة ضد العرب، وترسخ الأفكار المسبقة ضدي بصفتي عربياً، ولكنها تقف في وجه السلطة والسلطان، هي الصحافة الأكثر تأثيرا من صحافة «مسح الجوخ».

أما نضالنا ضد التمييز العنصري والاحتلال وضد التعامل النمطي ومعاداة العرب والإسلام في هذه البلاد، فيجب أن يستمر لفضح تلك الأوجه المظلمة والعنصرية، وذلك المعيار الأخلاقي والقيمي المزدوج.

وما من شك انني سوف أكون أكثر ارتياحا وتفاؤلا عندما أقرأ في احدى صحف العالم العربي عن محاكمة إبن الزعيم أو الرئيس أو أخيه أو وزير الداخلية لأنه أساء استعمال السلطة (في نفس دولة الصحيفة).

.. فهل نحن قريبون من ذلك؟. او هي الاوتوبيا؟

* رئيس الحركة العربية للتغيير ـ

خاص بـ«الشرق الأوسط»