بوتين في الرياض: مسارات جديدة في علاقات البلدين

TT

يزور الرئيس بوتين الرياض في خطوة هامة في علاقات البلدين، حيث سلكت العلاقات السعودية الروسية مسارها الصحيح بخطوة أولى بدأها الملك عبد الله (إبان كان وليا للعهد) بزيارته التاريخية لموسكو (2 ـ 4 / سبتمبر/ 2003 م) كأرفع مسؤول سعودي يزور روسيا على مدى تاريخ علاقات البلدين، وزاد من أهمية تلك الزيارة توقيع البلدين على مجموعة من الاتفاقات الهامة التي مهدت الطريق لاتجاهات عديدة ومتسارعة في العلاقات الثنائية السعودية الروسية، لذا تأتي الزيارة الحالية للرئيس بوتين لاستكمال المسارات الأخرى وخاصة في مجالات التعاون العلمي والثقافي والإعلامي، في فسحة من الوقت لتناول قضايا ثنائية وإقليمية ودولية على المسارات السياسية والاقتصادية.

لقد أخذت العلاقات السعودية الروسية وقتها الكافي لتتشكل وفق مصالح الطرفين واحتياجاتهما، وتحول كثير من معوقات الماضي إلى مقدمات أساسية للتعاون المستقبلي بينهما، لقد أدركت المملكة أن روسيا أوسع من ميدانها الإسلامي في علاقاتها مع المملكة، وأهمية الدور الروسي في سياق الأحداث الدولية والإقليمية المتأزمة في محاولة لخلق نوع من التوازن النوعي في التأثير على الأحداث الراهنة ومعالجتها، وروسيا بدورها شهدت ثبات الموقف السعودي ووضوحه في مختلف القضايا، وثقل هذا الموقف في إحداث نوع من التهدئة وخلق الآفاق المتزنة في التعامل مع القضايا الإقليمية؛ فاختصر الطرفان الزمن باتجاه المستقبل الثنائي من خلال عدة اتجاهات متوازية جاءت بمثابة قواسم مشتركة بين الطرفين، وبرزت في الساحة السعودية الروسية مجموعة من العوامل الأساسية المؤثرة في علاقاتهما (إسلامية ، وسياسية ، واقتصادية)

العوامل المؤثرة في العلاقات السعودية الروسية:

العامل الإسلامي: كان المحور الرئيس، وما يزال في علاقات البلدين، حتى في الفترة التي أعقبت سحب موسكو لسفيرها من الحجاز عام 1935م ، وانقطاع كافة الاتصالات بين البلدين، وفي المرحلة الانتقالية التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفييتي وقيام دولة روسيا الاتحادية وريثة له ، ظل العامل الإسلامي الشعرة الوحيدة الباقية في هذه العلاقات، وعاد العامل الإسلامي مجددا ليلقي بظلاله على العلاقات الثنائية ـ سلبا وإيجابا ـ وكثرت الدراسات العلمية والتحليلات السياسية لهذا العامل، في ظل غياب للموضوعية وندرة ملموسة للمعلومات الحقيقية عن الطرفين، فنشأت بذلك رؤى علمية ومواقف سياسية غير صائبة أثرت بصورة مباشرة في توجهات كلا الطرفين نحو بعضهما البعض، وكانت ميدانا خصبا للمستفيدين من تعطيل أي توجه إيجابي للعلاقات المشتركة، ورافق ذلك فتور في همة المؤسسات والأفراد المعنيين بهذا الميدان في كلا البلدين.

وتأكد دور العامل الإسلامي في علاقات البلدين استنادا الى الحقيقة الدينية للمملكة حيث مهوى أفئدة أكثر من مليار مسلم في العالم مما جعلها صاحبة ريادة في العالم الإسلامي، وهذا يلتقي مع مصلحة روسيا الداخلية التي يدعمها أكثر من عشرين مليون مسلم روسي يمثلون ثقلا داخليا كبيرا جعل لروسيا نوعا من التميز عن دول أوربا مكنها من التحرك والتأثير في العمق الإسلامي لدول العالم الإسلامي، من هنا جاءت الرغبة الروسية للانضمام كمراقب في منظمة المؤتمر الإسلامي للتأكيد على التوجه الروسي على هذا المسار سعيا لكسب الرهان الإسلامي الذي خسره الغرب بمواقفه غير العادلة بل والظالمة في أحيان كثيرة، وقد التقت الرغبة الروسية مع موقف سعودي إيجابي وواع بظروف المرحلة الراهنة وأهمية الدور الروسي في هذا الميدان، فدعمت التوجه الروسي لتنتظم في عقد منظمة المؤتمر الإسلامي، وبهذا حملت روسيا صفة إضافية جعلها تتحرك في العالم الإسلامي بحرية الشريك وليس الضيف أو الغريب، وأظهرت جديتها في هذا التوجه بعدة أساليب، منها تعيين مستشار للرئيس لشؤون المنظمات الإسلامية (السفير/ بنيامين بوبوف)، وبدأت روسيا تجني ثمار هذا التوجه فكثفت عملها بجهود متنوعة وسلسلة مؤتمرات دولية تحمل موضوع: (روسيا والعالم الإسلامي)، بدأت بموسكو ثم تتارستان وأخيراً في اسطنبول.

لقد تبدل العامل الإسلامي في العلاقات السعودية الروسية من معوق لمسيرة علاقات البلدين إلى عنصر هام يدعم هذه العلاقات، وتميزت هذه المرحلة بغياب كبير للأدوار السلبية التي كانت تلعبها في السابق بعض الإدارات الدينية الروسية تجاه المملكة، وبدأ البعض الآخر منها في تفعيل دوره الإيجابي من خلال بعض البرامج والاتصالات الفاعلة، وينتظر من الإعلام وخاصة الروسي دور حيوي في هذا الاتجاه لتصحيح مسيرته الطويلة في الحملات الدعائية تجاه المملكة ومنهجها الإسلامي، بدعاوى الوهابية والأصولية وغيرها، فيلزم أن يتبع وعي القيادة الروسية وعي إعلامي بالمصلحة الوطنية، وهي لا تعدو كونها موقفا منصفا للمملكة ومنهجها المعتدل.

العامل السياسي: لعب هذا العامل دورين مزدوجين، أحدهما خاص بالداخل الروسي، والآخر عام ارتبط بالقضايا الإقليمية والدولية.

أما الدور السياسي الداخلي فاتسم بارتباط المملكة في الساحة السياسية الروسية ارتباطا وثيقا بالقضية الشيشانية، وظل هذا الموضوع المحور الرئيس في التعليقات السياسية لكثير من الكتاب ومحللي وكالات الأنباء الروسية، وغاب في خضم الأحداث الشيشانية أية مواقف إيجابية سعودية على المستويين الإقليمي والدولي، إلى حين زيارة الملك عبد الله لموسكو وحديثه لوكالة الأنباء الروسية بشأن هذه القضية وأنه يجب أن تحل في ضوء قوانين فدرالية روسيا الاتحادية، وبهذا التعليق المباشر أغلق ملف أربك علاقات البلدين وفتح الأفق لملفات عمل أخرى تتسم بروح التفاهم والمشاركة، وقبل إقفال هذا الموضوع في هذا المقام أؤكد على أهمية قيام المملكة وروسيا بالتعاون مع منظمة المؤتمر الإسلامي والبنك الإسلامي للتنمية تنظيم مؤتمر تنموي لمعالجة الآثار السلبية التي لحقت بجمهورية الشيشان وشعبها الذي فاته كثير من مقومات التنمية البشرية والحياة الطبيعية بسبب الحرب الطويلة، وأن يشتمل هذا المشروع معالجة مشكلات البنى التحتية، والتنمية الثقافية والعلمية، والدعم المادي المباشر لعامة الشعب.

أما الدور السياسي العام فتمثل في الرحلات المكوكية التي قام بها كل من وزير الخارجية السعودي، ونظيره الروسي في لقاءات تشاورية بين موسكو والرياض، في مجمل القضايا الإقليمية والدولية أوجدت نوعا من الانسجام في كثير من المواقف تجاه مجمل القضايا المعاصرة ، إلا أن المراقبين يتطلعون إلى لعب الدولتين أدوارا أكثر عمقا وفاعلية، وأن يكون لموسكو حضورها القوي في القضية الفلسطينية باعتبارها عضوا في اللجنة الرباعية الدولية، والتمسك بالخيار الشعبي الفلسطيني الديموقراطي لاختيار حكومته بعيدا عن الضغوطات والممارسات غير المسؤولة التي تقوم بها أطراف خارجية وأخرى داخلية خلقت الأجواء المشحونة التي فجرت الشارع الفلسطيني، والحديث ذاته في الشأن العراقي وكذلك اللبناني، والابتعاد بالمنطقة عن أجواء المواجهات العسكرية المحتملة سواء ضد سوريا أو إيران تحت أي مبرر، ولاسيما أن المبررات التي سبق تقديمها للحملات العسكرية في المنطقة أثبت الواقع كذبها وأنها مختلقة لفرض أوضاع جديدة عادت بالمنطقة لدوامة الصراع المتأجج، وخلقت أجواء وبؤرا للإرهاب الدولي بكافة مستوياته وانتماءاته.

العامل السياسي عنصر هام في مستقبل علاقات البلدين إذا توفرت إمكانية المشاركة السياسية في المعالجة واتخاذ المواقف في الشأن الإقليمي والدولي، ولا يفترض في هذا التوجه أن يكون كل منهما بديلا أو خيارا للطرف الآخر بشكل مستقل عن العلاقات الاستراتيجية الخارجية لكل منهما، ولكن أن تكون هذه العلاقة ـ باعتبار الإمكانات الذاتية والموضوعية للدولتين ـ قوة إضافية تزيد من حجم التنوع والمشاركة في معالجة المشكلات السياسية الراهنة، وهنا يجب أن تراهن موسكو على قوة ووضوح مواقفها في الشرق الأوسط ، وأن يكون للحضور الروسي أثره في مجريات الأحداث وتفاعلاتها، فلا يزال المراقبون في العالم العربي يتساءلون عن جدية وتأثير الموقف الروسي تجاه القضايا العربية !! ولا أحد يقول بغياب روسيا عن الساحة السياسية العربية والشرق أوسطية ، ولكن حضورها لا يتعدى التهدئة أو كسب الوقت، دون المعالجة وصنع القرار الدولي القاطع، واعتقد أن روسيا قادرة على تحقيق هذا الشيء ، وهذا ما ينتظره المراقبون وخاصة في المملكة، ليكون العامل السياسي عنصر هام في علاقات البلدين.

العامل الاقتصادي: الاقتصاد ليس عصب الحياة، بل عصب الممارسة السياسية المعاصرة، لذا كان موقف القيادة العسكرية الروسية رافضا لتنامي العلاقات الروسية العربية ، باعتبار أن لهذه العلاقات تبعاتها دون أن يكون لموسكو مصالح اقتصادية توازي الجهد والوقت المبذول في هذا الاتجاه ، بل ترى هذه القيادات أن التوجه الروسي لأمريكا الجنوبية والهند أجدى لموسكو اقتصاديا وأقل تبعات سياسية ، وينسحب هذا القول على علاقات موسكو مع الرياض، فالعنصر الاقتصادي غائب بشكل كبير جدا، وأرقام التبادل التجاري لا تزال في أدنى مستوياتها بالرغم من تأسيس مجلس الأعمال السعودي الروسي، فلا يزال الطرفان رهن معوقات بيروقراطية وتنظيمية بعضها حقيقي والآخر متوهم، ولا تزال الأسباب الحقيقية مجهولة، فهل المشكلة تكمن في تجارب كل من الطرفين واختلاف أساليب ووسائل الممارسة الاقتصادية، أم أن لعنصر اللغة أثره السلبي ؟؟ ولا اعتقد بحقيقة هذا السبب بالذات رغم تكرار الحديث عنه في عدة مناسبات، بل أجزم يقينا أن الأمر لا يتعدى الحاجة إلى قرار دولة وبالذات من القيادة السعودية للتوجه إلى السوق الروسي، وبخاصة في مجالات تصنيع النفط والغاز، وصناعة الطاقة، والصناعات العسكرية، فهذه المجالات تمثل الثقل الاقتصادي من جانب، ومن جانب آخر تمنح المستثمرين الثقة في السوق المقابل، والتعامل معه من العمق بدعم وضمانات حكومية، فلدى الطرفين إمكانات هائلة للتبادل التجاري بعوائد ربحية كبيرة، والقضية لا تتوقف على توقيع الطرفين على اتفاقيات التعاون التجاري، ومنع الازدواج الضريبي، فهذه لا تعدو كونها ممهدات للممارسة التجارية، ولكنها تحتاج إلى القرار السياسي، والتوجه الحكومي لهذا السوق، عندها سوف تتفتح الآفاق التجارية بين البلدين، وهنا يكمن السؤال الحقيقي: هل القرار الاقتصادي رهن بالقرار السياسي؟؟ وأن حجم التوجه الاقتصادي لا يمكن بحال أن يتجاوز حجم التوجه السياسي؟؟ أظن أن هذا هو مكمن الحقيقية في مناقشة هذه العلاقة مع دولة مثل روسيا، روسيا ببعدها التاريخي، وروسيا بواقعها السياسي المتأرجح بين بناء الداخل والحفاظ على عمقها الاستراتيجي في الخارج، مع هذا كله فإن سعي المملكة إلى توسيع علاقاتها الاقتصادية مع روسيا سوف يقدم فرصة لزيادة التبادل التجاري بينهما، وتوسع مجالات الاستثمارات المشتركة.

خلاصة القول: بالرغم من تعدد آفاق التعاون، وفتح مسارات جديدة وجيدة للتعاون الثنائي، إلا أنه يصعب التوقع بأن تكون المملكة وروسيا حليفين لبعضهما، بل سيكون التعاون بينهما مرتبطا بمصالح كل منهما والتي ليس بالضرورة أنها ستتوافق، إضافة إلى نظرة المثقفين السعوديين إلى روسيا بأنها ثمرة غير مستقرة لتفكك الاتحاد السوفييتي، وأنه يصعب التنبؤ بأفعال السلطة الروسية، وفي المقابل الروسي تبرز تيارات متعددة داخل روسيا لها مواقف متناقضة تجاه المملكة وموقعها في سلم أولويات الدولة الروسية. فهل تستطيع الإرادة الذاتية التي يتمتع بها كل من الملك عبد الله والرئيس بوتين، لتجاوز ذلك كله وخلق ميدان عمل ثنائي خارج توقعات وحسابات المراقبين؟؟

* مستشار سعودي وباحث في الشؤون الروسية

[email protected]