عنتريات نسائية.. من لبنان

TT

باستثناء القنصْ من الشرفات وأسطح المنازل الذي شاهده اللبنانيون بمرارة، يوم الخميس قبل الفائت، مارست النساء اللبنانيات، لغاية اللحظة، كل أشكال الاحتجاج والتظاهر والتصارع والتشاتم وحرق الدواليب وإشعال السيارات وقطع الطرقات، على الطريقة الرجالية العنيفة والمستشرسة. وانحازت حواء اللبنانية بالروح والسواعد، إلى أحزاب وطوائف ومذاهب، أسوة بأخيها الرجل، من دون أن تسجل نقطة فارقة عنه أو تمايزاً ايجابياً يليق بها. ورغم ان الكثير من الخناشير اختبأوا في أول زقاق حين بدأ إطلاق الرصاص غير ان ثمة طالبات اعتبرن وجودهن في ساحة المعركة التي اندلعت في محيط الجامعة العربية، مجال فخر واعتداد، بحيث كن شاهدات على لحظة تاريخية من عمر البلاد. وقد تكون العنتريات الأنثوية هي استكمالا لمشوار المساواة بين الجنسين، الذي قطع أشواطاً يعتد بها في لبنان، إلا ان المساواة في الحقوق السياسية ما تزال حلماً يرتجى. ونظرة على المجلسين النيابي والوزاري اللذين تتناهشهما القبائل والعشائر المتناحرة، تريك ان المتصارعين هم إما رجال ورثوا السلطة أبا عن جد أو متمولون اشتروا الزعامة بكفاءة جيوبهم، أو زعماء ميليشيات ملطخ تاريخهم بالدماء، وما النساء الست المحسوبات على الجنس الآخر في الصف السياسي الأول، إلا الاستثناء الذي يؤكد هذه القاعدة الانتحارية. ومع ذلك فالنساء مستميتات في دعم نظام أبوي، عشائري، لم يرحمهن في حرب أو يوفرهن في سلم. فقد انتزع أولادهن من أحضانهن، وأوفرهم حظاً هو من لاذ ببلد آمن بدل أن ترحل به الفوضى إلى قبر أو معتقل. ومع ذلك فالتظاهرة المتواضعة التي دعت اليها الحركة العالمية للأمهات احتجاجا على العنف والاحتقان، نقطة في بحر ما يمكن أن تجمعه حركة 14 آذار أو غريمتها 8 آذار، من أفواج نسائية بينهن المحجبات والمسنات كما المتفرنجات واليافعات. وكانت حركة 14 آذار تفخر بنسائها وتغمز من قناة خشونة الجانب الآخر، وفصله بين الجنسين، فبدا اليوم أن لا فضل لتجمع على آخر إلا بتنمية عدد المشاركات من الحريم بعد أن عزّ الرجال، واستقل مئات آلاف منهم الطائرات هربا من البطالة والندامة، وبات الرهان كبيراً على الجنس الآخر، ما دامت أعداد الرؤوس، هي الفصل والحكم. وعلى هذا المنوال، تماهت النساء مع الرجال، وباتت المساواة لعنة بدل ان تكون نعمة، ولا عجب ما دام التشويه في بلادنا لكل المعاني الجميلة، قيمة قائمة بذاتها.

وهكذا فالتمييز بات بين نخبة سياسية رجالية، تختبئ وراء جدران القصور والعمائر الفخمة، وعامة من الجنسين، تسوح في الشوارع حاملة الأعلام والسكاكين، ولا بأس بالقنابل والرشاشات، لتصفية حسابات الزعامات الذكورية التي تريد من النساء رقيقات الحال ومتوسطاته، الهتاف والصراخ ولا ترغب بهن شريكات في القرار، كي يتحملن بذكائهن وغبائهن أيضاً، مسؤوليات العمار والدمار. ولعل أسوأ ما يمكن أن يحدث هو ان يضاف إلى حفنة النساء الموجودات الآن على كراسي البرلمان ومجلس الوزراء كمية جديدة من نفس الطينة والعجينة المتشربة روح الثأر والعشيرة. فثمة امرأة حزبية لبنانية اليوم، بمقدورها ان تنتزع عينيك من محجريهما، ومتعاطفة مع أحد الفريقين المتناهشين، عندها من الضغينة والغلّ ما يؤهلها لأن تقتل بدم بارد، لو أتيحت لها الفرصة. ولا تخدعنك هيفاء بملمسها الناعم واليسا بعذوبة صوتها أو مريم فارس برقة رقصها، فلكل منهن أخت مسترجلة تسابق الفحول فتسبقهم.

من هنا يمكن ان تفسر سرعة انتقال تظاهرة احتجاجية تحمل الشموع إلى معركة تشعل الدكاكين والبيوت، ويتحول حفل اعتراضي يتسلى بـ«الباربكيو» الى معركة بالسلاح الأبيض بفضل أسياخ الشوي. وينقلب جمع يتمترس خلف النشيد الوطني بطرفة عين الى جوقة من الشتامين المبتذلين وفق الإيقاع الطائفي الملعون. ولا تأمن لحوار بين طالبين بريئي المظهر في كافتيريا إحدى الجامعات، فقد يتبدل الأمر من حيث لم تكن تحسب، كما حدث في الجامعة العربية إلى حرب تستخدم فيها كل أنواع الأسلحة المتوفرة. وكان يفهم أن تشعر النساء بالشراكة الكلية بعد خروج الجيش السوري من لبنان، واحتداد الرغبة بالاستقلال والحرية، فهذا مما يتناغم ومطالب الامهات اللواتي دفعن فلذات قلوبهن ثمنا، اما وأن الأحوال تتدهور الآن، الى حافة الاقتتال، وتصمد المحتجات، مواليات ومعارضات، في قلب الحرائق وزخات الرصاص، ويصرخن امام الشاشات انهن لن يتزحزحن عن مواقعهن، قبل تحقيق مطالبهن، فهذا لعمري من عجائب الأمور.

حين شاهدت، كما كل المواطنين المتعطشين لحلّ آمن، إعلانات ملأت الطرقات عن ولادة حركة جديدة وسطية بين 8 آذار و14 آذار، راودني حلم أن تكون مجموعة من النساء العاقلات المستقلات، ومعهن رفاق يؤمنون بمساواة إنسانية وعادلة، قد أطلقوا صرخة هذا الفريق الجديد الذي يدعى 11 آذار، خاصة وأن الإعلان وضع رسم امرأة + رسم رجل، وقال انهما بقامتيهما يساويان 11. إعلان ذكي لا يعترف بالقاعدة الرياضية الصماء. ويطل عليك احياناً ليقول «بدي عيش معك» و«ما بيهم أي واحد قبل»، أو «سوا إيد بإيد» و«الشر برا وبعيد»، عبارات رقيقة وديناميكية توزعت على الطرقات، نكاد نجزم ان الذي صممها أنثوي النزعة، حتى ولو كان خنشوراً مفتول العضلات، وهذه فضيلة لرجل في زمن تهدر فيه الرجولة على مذبح العنف الطائفي والمجاني، وتصير الأنوثة الذكية المتوازنة عملة نادرة. لكن حلمك لن يطول، لو كنت لبنانيا خائفا من هذا الجنون المستشري، حين تعرف ان وراء الإعلان الرومانسي رجل أعمال جديد، يبحث عن دور سياسي في لحظة خلخلة قد تسمح له باختراق، وهي فرصة إضافية ضائعة، في بلد اغلبيته الساحقة نساء، ويهدده انفجار العنف في أي لحظة.

اختارت نساء لبنان، لغاية كتابة هذه السطور، أن يمشين على خطى النساء الحديديات اللواتي لم يكافحن الحروب ويرفضنها بكل ما أوتين من عزم، من أمثال مارغريت تاتشر وغولداماير وتسيبي ليفني وغونداليسا رايس، في ما يبزغ في العالم نموذج جديد لنساء قويات وصلبات غير متوحشات، يباهين بأمومتهن ورعايتهن للبيئة وعشقهن للطفولة، أشهرهن اليوم نجمة فرنسا الصاعدة التي قد تتبوأ المنصب الأول في الدولة سيغولان الرويال، وتصبح نموذجاً للمرأة الجديدة الحرة من دون أن تتنازل عن هويتها الأصل وحقها في أن تكون أنثى. وربما بعد سنوات تطول أو تقصر، تتطلع اللبنانية المغرومة بالتقليد والاستيراد إلى الفاتنة رويال، لتستوحي منها قدرتها على إغراء الشريك ليلاقيها في منتصف الطريق، بدل ان تذعن باسم المساواة وتقبل بالذهاب إلى جحيمه بناره ولهيبه. فهل سنشهد اليوم الذي تخرج فيه المرأة اللبنانية فعلا من رحم امرأة وليس من «رحم» رجل؟

[email protected]