على خطى آنا بوكر

TT

السيدة آنا بوكر، وزيرة خارجية رومانيا في الخمسينات، كانت ظاهرة سياسية اعتقد العديدون أن عالم الديمقراطيات والحريات قضى عليها... الى أن تفجرت أزمة المحكمة الدولية في لبنان فاكتشف اللبنانيون ان بين ظهرانيهم من يبزها في اختصاصها «المهني» ـ أي الولاء إلى غير الوطن.

آنا بوكر الرومانية، بنت سمعتها السياسية في بلدها على ولائها المطلق للنظام السوفياتي الستاليني. وما زال الرومانيون يتندرون لليوم بردها على صديق سألها يوم التقى بها في أحد شوارع العاصمة الرومانية، بوخارست، محتمية بمظلتها والجو صاح وجميل: «لماذا تسيرين تحت مظلة ولا مطر في بوخارست»؟ أجابته: «انها تمطر في موسكو كما عرفت من الاذاعة». كما في بوخارست في الامس كذلك في بيروت اليوم: «بوكريون» لا يهمهم جو لبنان السياسي المحتقن ولا مناخه المذهبي المتوتر مهما غلت حرارته.

همهم الأول والأخير الا تمطر في طهران أو دمشق. واضح لأي متتبع «لأدبيات» الجدل السياسي (ان كانت التسمية ما زالت تليق بالواقع) ان تهمة العمالة للخارج باتت من «ثوابت» المرحلة في لبنان فالتراشق بها يمارس على أعلى المستويات والتسليم بها من تحصيل الحاصل، على مستوى الشارع على الاقل.

سواء أدرجت هذه التهمة في خانة «بعض الظن إثم» أم في خانة «سوء الظن من حسن الفطن»، تبدو اليوم القاسم المشترك الوحيد في خطاب السياسيين اللبنانيين.

على سبيل المثال لا الحصر، رئيس البرلمان اللبناني، نبيه بري، يعلن جهارا أن «الاشكالات في لبنان مردها ان بعض المسؤولين يستجدي الحلول من الخارج». والمرجع الشيعي الشيخ محمد حسين فضل الله يعتبر ان «الكثير من المشاكل التي يعيشها اللبنانيون مصدرها خارجي وليس داخليا». أما الامين العام السابق لحزب الله، الشيخ صبحي الطفيلي، فيدعو ايران من على صفحات «الشرق الاوسط» إلى اعادة النظر في سياستها في لبنان لأنها «تدفع بالشعب اللبناني والشيعة خصوصا الى الكارثة» فيما يتهم رئيس الحكومة اللبنانية، فؤاد السنيورة، ايران وسورية معا بالسعي لتنفيذ انقلاب في لبنان ويجزم ـ في حديث مع صحيفة «فوكوس» الالمانية ـ «ان القوى الداخلية والخارجية أخذت البرلمان اللبناني بالكامل كرهينة»... تعددت الشهادات والتهمة واحدة... ولكن إذا سلمنا جدلا ان الجميع في لبنان متساوون في العمالة، فمن الانصاف الملاحظة ان ما لا يتساوون به هو «نوعية» هذه العمالة.

إذا جاز اعتبار التصرف الداخلي حيال الازمة اللبنانية مقياسا نوعيا لطبيعة علاقة البعض بمرجعهم الخارجي تصح الملاحظة بان شكليات ارتباط البعض بعواصم الانظمة الشمولية في المنطقة لا تختلف عن شكليات العمالة «العقائدية» للنظام السوفياتي السابق، أي انها لا تترك «للمتعاون» أو «العميل» فسحة استقلال تسمح له بهامش تحرك داخلي ولو في اطار مبادرة لاحتواء الازمة لا حلها ـ ربما مخافة ان يفسر ذلك خروجا على الخط «العقائدي» للمرجع الخارجي، الامر الذي يسمح باعتبار عملاء الانظمة الشمولية في الشرق الاوسط «بوكريين» بامتياز.

أما المتعاطفون مع الانظمة الديمقراطية فيبدون أكثر استقلالا في تحركهم الداخلي، ربما لافتقار علاقتهم مع العواصم الغربية إلى رابط «عقائدي» أو «مادي» وربما لتطور هذه العلاقة من منطلق التقاء في مصلحتي الجانبين. باختصار كيف نفسر للمواطن اللبناني العادي قدرة المتعاطفين مع الانظمة الديمقراطية على طرح مبادرة حوار داخلي تلو المبادرة وبالمقابل رفض «العملاء البوكريين»، تكرارا، لأي حوار مباشر معهم سواء كان داخل المؤسسات الدستورية أم خارجها؟

إذا كانت «العمالة» هي فعلا القاسم المشترك بين الفريقين، فمن أنسب من «العميل» لمفاوضة «العميل»... أوليس مفترضا في العميل الرفيع المستوى أن يكون أكثر المطلعين على مواقف مرجعه الخارجي من التسويات المقترحة للازمة اللبنانية وأكثرهم إدراكا للمقبول والمرفوض منها وبالتالي الاقدر من غيره على التوصل الى تسوية «بالوكالة» للازمة القائمة... الا إذا كان الرفض بحد ذاته مطلب المرجع الخارجي ومدخله للإمساك من جديد بالقرار اللبناني.

لو كان «طقس» لبنان همهم الاول لما رفض «البوكريون» الحوار مع ابناء وطنهم. وإذا سلمنا ـ جدلا ايضا ـ انهم «وطنيون غيورون»، فالمصيبة أعظم في تبرير رفضهم لحوار حول مستقبل وطنهم...

مع ذلك فللتبعية حدود كما أثبتت تجربة آنا بوكر نفسها، فحين أصبحت عمالتها عبئا على النظام الستاليني ـ إثر ازمة انهيار سعر العملة الرومانية ـ تخلت موسكو عنها بهدوء وأسقطتها من قائمة العملاء المفيدين لنظامها. وفي وقت لم يعد خافيا على احد أن اللبنانيين، كل اللبنانيين وعلى اختلاف مشاربهم ومذاهبهم، تعبوا من «لعبة ديمقراطية» يبعدها «البوكريون» باطراد عن المؤسسات الديمقراطية، وفي اعقاب انقضاء أكثر من شهرين على اعتصام أضر ببيئة بيروت أكثر مما أضر بحكومتها. وبعد تحرك تصعيدي بلغ ذروته، بدون طائل، في إضراب 23 يناير (كانون الثاني)، لم يعد المطلوب دعوة المعتصمين سعيدا في وسط بيروت التجاري الى لملمة خيامهم والرحيل... بل دعوة مرجعهم الخارجي إلى تقويم أدائهم على خلفية جدواها لمصلحته، خصوصا بعد ان اثبت «الواقع اللبناني» بالتجربة المعاشة أن أي تصعيد للأزمة سقفه القسري خطوط التماس المذهبية للتركيبة اللبنانية وهي خطوط تحولت، بعد اتفاق الطائف، إلى سقف دبلوماسية الممكن في لبنان.