.. لهذا أنجزت السعودية ما عجز عن إنجازه الآخرون

TT

ما أن حقق لقاء مكة المكرمة الإنجاز الهائل الذي تحقق، والذي أُعتبر تحقيقه بمثابة المعجزة، حتى تساءل كثيرون عن سرِّ نجاح المملكة العربية السعودية في حلِّ عقدة كانت مستعصية على الحل والتوفيق بين تنظيمين تعطلت بينهما لغة الكلام فلجآ إلى لغة الرصاص والصواريخ والخطف المتبادل وإغراق غزة وشوارعها بالرعب والدماء والدخان والموت.

والسر، وهذه حقيقة يعرفها الفلسطينيون كلهم ويعرفها العرب ويعرفها كل الذين يتابعون المشهد الفلسطيني من الخارج، يكمن في أن المملكة العربية السعودية استطاعت تحقيق هذه «المعجزة» لأنها لم تطرق هذا الباب بحثاً عن دور إقليمي هي بحاجة إليه، بل لأنها تحركت كما كانت تفعل دائماً في اللحظة الحاسمة ولأنها انطلقت من منطلق الواجب الديني والالتزام القومي الصحيح والصادق ولأنها لم تبغ لا حمداً ولا شكوراً ولا تسديد حسابات خاصة.

لا شك في ان المصريين بذلوا جهوداً خيِِّرة أثمرت في ترتيب وقف لإطلاق النار وفَّر لقادة حركتي «فتح» و«حماس» فرصة لالتقاط الأنفاس جعلتهم يذهبون الى مكة المكرمة وهم أقل توتراً، وجعلتهم يتحاورون بأعصاب هادئة، وهذا، في ظل الأجواء المريحة التي وفَّرتها القيادة السعودية، مكنهم من تجاوز الكثير من العقبات التي كانت تحول دون توصلهم الى ما توصلوا إليه.

لم تنجح تلك المحاولة القطرية الشهيرة، التي أخذت وزير الخارجية حمد بن جاسم بن جبر آل ثاني الى غزة فعاد كما جاء، لأن المحاولين انطلقوا من منطلق البحث عن دورٍ إقليمي أكبر من حجمهم بكثير ولأنهم ذهبوا وهم يرفعون راية الانحياز الى طرف على حساب الطرف الآخر.

كان «الأشقاء» القطريون يعتقدون أن النجاح، للتوفيق بين التعارضات والتناقضات الفلسطينية، يمكن اجتراحه بالبيع وبالشراء وبمجرد تفاهم خفي مع الحكومة الإسرائيلية وبالانطلاق من بوابة «فسطاط» الممانعة والرفض وبفتوى سخية من شيخ محطة «الحزيرة» يوسف القرضاوي ولذلك فإن مبادرتهم تلك قد فارقت الحياة قبل أن ترى النور ولم تشفع لها ابتهالات المبتهلين ولا تضرعات المتضرعين.

لقد نجحت المملكة العربية السعودية وحققت هذا الإنجاز المهم، الذي سيضع أمامه المتضررون عقبات كثيرة، لأنها ليست جديدة ولا مستجدة على القضية الفلسطينية ولأنها وقفت الى جانب هذه القضية حتى عندما كانت لا تزال في طور الإعداد والتحضير وعندما وقف ضدها حتى الرئيس جمال عبد الناصر، رحمه الله، الذي قال لاحقاً بعد أن اكتشف حقيقتها «إن المقاومة وجدت لتبقى» وأيضاً عندما كان الاتحاد السوفياتي ينظر إليها بعين الشك والريبة ويعتبرها مجرد مغامرة نزقة يقف خلفها بعض المتطرفين لتوريط المنطقة بحرب جديدة في الشرق الأوسط لا يستفيد منها إلا «الغرب الإمبريالي» والولايات المتحدة الأميركية.

لم تحاول المملكة العربية السعودية استخدام دعمها المبكر للظاهرة الفلسطينية الجديدة من أجل توسيع إطار نفوذها الإقليمي، وهي لم تسع الى استخدام هذه الظاهرة في صراعها مع القوى الخارجية التي كانت تستهدفها ثم وهي بقيت تنفق بلا مِنَّة وتدعم سياسياً وبكل الوسائل بصمت وبلا تبجح وبدون أي حركات استعراضية.

في كل مفاصل النضال الفلسطيني المعاصر بقيت المملكة العربية السعودية حاضرة وداعمة وموجودة، ولعل ما لا يعرفه كثيرون أن القادة السعوديين كانوا يعيشون الحصار الذي فرضه الغزو الإسرائيلي للبنان في عام 1982 على الفلسطينيين لحظة بلحظة، وأنهم ما كانوا ينامون حتى يطمئنوا الى ان ياسر عرفات لن يوقظهم من نومهم في ساعات متقدمة من الفجر، وأن القصف الذي يستهدف بيروت والمخيمات الفلسطينية قد توقف.

إنه تاريخ طويل وأنها محطات مهمة في تاريخ هذه القضية، لذلك فإن الذين ذهبوا الى مكة المكرمة، تلبية لنداء خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، يعرفون هذه الحقيقة ويعرفون حقائق كثيرة أخرى لا يعرفها الذين لم يعيشوا التجربة الفلسطينية، فقد تجاوزوا الكثير من تعارضاتهم وخلافاتهم وقد توصلوا الى الاتفاق الذي توصلوا إليه لأنهم كانوا يدركون أن شعبهم لن يقبل منهم أن يعودوا من المملكة العربية السعودية ليلعلع الرصاص مجدداً في الضفة الغربية وغزة .

والآن وقد تحقق هذا الإنجاز الكبير الذي تحقق فإن واجب الوفاء للمملكة العربية السعودية يفرض على «فتح» و«حماس» وكل الفصائل والقوى الفلسطينية أن تحمي هذا الاتفاق من التدخلات الخارجية ومن تخريب المتضررين، وأن على الفلسطينيين كلهم أن يدركوا أن البديل عن هذا الاتفاق هو الاقتتال والحرب الأهلية المدمرة وهو بقاء هذه القضية المقدسة عالقة في عنق الزجاجة بينما الشعب الفلسطيني ستزداد مكابدته وستزداد معاناته.

هناك ألوان رمادية كثيرة في هذا الاتفاق سيحاول المتضررون النفاذ منها للعودة بالوضع الفلسطيني الى ما كان عليه قبل الذهاب الى مكة المكرمة، وهنا فإن المهم هو القناعة لدى قادة «فتح» وقادة «حماس» بأن المس بما تم إنجازه هو خيانة للقضية الفلسطينية وهو اعتداء صارخ على حق الشعب الفلسطيني في الاستقرار والهدوء والاستمرار بمسيرته حتى تقرير المصير وإقامة الدولة المستقلة.

إن على «حماس» أولاً وعلى «فتح» ثانياً أن تدركا ان الحكومة التي من المفترض ان يبدأ تشكيلها اليوم الخميس هي حكومة الشعب الفلسطيني وحكومة منظمة التحرير الفلسطينية وأنها ليست حكومة هذا الفصيل أو ذاك طالما ان الذي كلف إسماعيل هنية بتشكيلها هو محمود عباس (أبو مازن) بصفته رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير وأيضاً بصفته رئيس السلطة الوطنية.

إن المسألة ليست مسألة صياغات، إنها مسألة قناعات، ولذلك فإنه لا فرق بين القول بضرورة «احترام» الاتفاقيات التي وقعتها منظمة التحرير الفلسطينية والقول بضرورة «التزام» الحكومة الجديدة بها إذا كانت هناك قناعة فعلية بأن مصلحة الشعب الفلسطيني تقتضي التحلي بالمزيد من الواقعية والتخلي عن الشعارات التي ثبت بأنه من غير الممكن تطبيقها والدخول بلا خجل ولا وجل من البوابة العريضة لعملية السلام وخوض الصراع بمفاهيم المرحلة وقيمها لاجتراح ما يمكن اجتراحه والحصول على ما يمكن الحصول عليه.

يجب ألا تتصرف حركة «حماس» على أساس أن هذا الحاضر هو استمرار للماضي القريب وأن هذه الحكومة هي حكومتها.. إن هذا سيدمر كل شيء وأنه سيشرع أبواب الساحة الفلسطينية مجدداً ومرة أخرى لكل التدخلات الخارجية المعروفة، وأن الخاسر سيكون الشعب الفلسطيني المعذب الذي بات بحاجة الى فترة التقاط أنفاس بعد كل ما جرى وبعد هذا القتال العبثي والصراعات غير الموضوعية.

يجب أن يعرف الذين أبرموا اتفاق مكة المكرمة، وهم يعرفون هذا بالتأكيد، أن مجرد تشكيل حكومة الوحدة الوطنية، رغم أنه خطوة في غاية الأهمية، إلا أنه لا يعني أن الإمكانية غدت متوفرة لتوسُّد آرائك من حرير فالتدخل الخارجي لا يزال قائماً، وإسرائيل لا تزال غير مؤهلة لعملية السلام، والموقف الأميركي لا يزال غير حاسم، و«الفساطيط» المعروفة لا تزال منصوبة ومتهيئة للانقضاض على هذا الاتفاق الذي قطع الطريق على مشاريعها ومخططاتها الإقليمية.

لا بد من أن يعتبر الذين وقعوا اتفاق مكة المكرمة ان مكة يجب ان تَجُبْ ما قبلها، وأن العودة لتحالفات وشعارات وممارسات ما قبل هذه المحطة المهمة، في تاريخ القضية الفلسطينية، هي الكارثة بعينها وهي ضياع تضحيات مكلفة بذلها الشعب الفلسطيني منذ فجر عشرينات القرن الماضي وحتى الآن.

إنها مرحلة جديدة وعلى حكومة الوحدة الوطينة التي من المفترض أن يبدأ تشكيلها اليوم ألا تسمح لا لحركة «حماس» ولا لحركة «فتح» التحدث باسمها وذلك لأنها حكومة منظمة التحرير، ولأن منظمة التحرير هي التي تمثل الشعب الفلسطيني كله، ثم ان على هذه الحكومة أن تمنع بعض المحسوبين عليها والذين يعتبروا أنفسهم ناطقين باسمها من إسهال التصريحات العشوائية غير المسؤولة وبخاصة المتعلقة بموضوع الاعتراف بإسرائيل وبعملية السلام وباتفاقيات أوسلو.