ليست حربا باردة

TT

هل عادت الحرب الباردة إلى أجواء العلاقات الدولية الجديدة بعد قرابة عقدين من انحسار هذا التوجه الذي هيمن على الفكر الاستراتيجي بعد الحرب العالمية الثانية؟.

كثيرون هم الذين ذهبوا إلى هذا المنحى بعد التصريحات المتبادلة بين وزير الدفاع الأمريكي الجديد روبير غيتس والرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

وقد بدأت حرب التصريحات بخطاب ألقاه الوزير الأمريكي يوم 8 فبراير ذهب فيه الى أن الولايات المتحدة بحاجة الى كل أصناف الوسائل العسكرية من أصغرها الى أكثرها تطورا من اجل ضمان أمنها الحيوي. وأضاف قائلا: «إننا لا ندري ماذا يمكن أن نتعرض له من دول مثل روسيا والصين وكوريا الشمالية وإيران وغيرها».

وقد جاء الرد سريعا من موسكو، على لسان الرئيس الروسي في خطابه أمام المؤتمر الدولي السنوي حول الأمن الدولي المنعقد في ميونخ يومي 9 و 10 فبراير، الذي ذهب فيه الى حد نعت السياسة الخارجية الأمريكية بالأحادية والإغراق في التسلط والهيمنة والإقصاء.

وقد اعتبرت إحدى الصحف الروسية الرئيسية (اجندلي جورنال) أن الرئيس بوتين أصبح يعتقد ان على بلاده مراجعة رؤيتها الاستراتيجية من منظور العودة لمعايير المنظومة الأمنية للحرب الباردة.

وتستند هذه الرؤية، التي قرأناها على نطاق واسع في الصحافة الغربية هذه الأيام، الى جملة اعتبارات من أهمها:

ـ خروج روسيا من نفق الأزمة الخانقة الذي دخلته منذ تفكك الدولة السوفياتية. فالاقتصاد الروسي تعافى تدريجيا ووصل لوضع مقبول، بحيث ان الدخل القومي رجع للمستوى الذي كان فيه عام 1990، كما أن البلاد حافظت على نمو اقتصادي متصل خلال السنوات الأخيرة بمعدل 6% بفضل ارتفاع أسعار النفط والغاز، كما ان المنشآت الصناعية تحسنت نوعيا وتعززت قدرتها الانتاجية والتصديرية، ورجعت للسوق الدولية.

ـ حققت البلاد في عهد بوتين استقرارا سياسيا ملحوظا، عززته الخطوات الإصلاحية المتتالية التي رمت الى انتشال الإدارة من الفساد، والرفع من المستوى المعيشي للسكان، وإنقاذ النظام التربوي المتآكل. وتفيد استطلاعات الرأي الأخيرة أن شعبية الرئيس بوتين تزايدت بصفة ملحوظة، وقد أصبح ينظر اليه الشارع الروسي بأنه المنقذ المخلص الذي بإمكانه ان يعيد لروسيا سابق أمجادها.

ـ تندرج النقمة الروسية الحالية في سياق تحول بارز في الخارطة الاستراتيجية الدولية، قادت اليه المواقف الانفرادية الأمريكية الرافضة لمفهوم «الشراكة الدولية» الذي شكل الأفق الاستراتيجي لمرحلة ما بعد الحرب الباردة.

من هذا المنظور، يمكن الإشارة الى الاختلاف البارز في إدارة الملفات الدولية الساخنة بين الولايات المتحدة وحلفائها الاوربيين، كما يمكن قراءة التطورات السياسية الداخلية في أمريكا الجنوبية التي حملت الى دائرة السلطة أنظمة شعبوية مناوئة لواشنطن، قد تشكل بؤرة استقطاب لحلف جنوبي واسع ضد الأحادية الأمريكية.

وعلى الرغم من هذه الاعتبارات البادية للعيان إلا ان استخدام عبارة «حرب باردة» في وصف الأزمة التي تشهدها حاليا العلاقات الأمريكية الروسية لا يبدو مسلكا دقيقا في استكناه الوضع الاستراتيجي الجديد وموقع روسيا الفاعل فيه.

فمن المعروف ان مفهوم «الحرب الباردة» الذي شكل السردية المحورية في عصر الصراع الآيديولوجي ـ الاستراتيجي السابق يحمل دلالتين أساسيتين هما من جهة فكرة صدام الرؤية العقدية من جهة، وفكرة التكافؤ والتوازن في عناصر القوة من جهة ثانية.

ولذا فإن ما ميز الحرب الباردة عن الحروب التقليدية المعروفة هو أنها صدام بين منظومتين عقديتين ومرجعيتين آيديولوجيتين، كما هي صراع جذري بين معسكرين يتقاسمان النفوذ والهيمنة على العالم.

ومن الواضح ان هذه المعادلة القطبية الثنائية قد انحسرت، ولم يعد بالتالي مفهوم الحرب الباردة قادرا على توفير عدة دلالية لضبط رهانات الوضع الدولي الجديد.

كما ان مفهوم «التعددية القطبية» الذي برز بعد نهاية الحرب الباردة ليس سوى تكييف هش لنموذج الثنائية القطبية المتجاوز.

إن ما نشهده بوضوح هو عودة روسيا لاعبا دوليا فاعلا في الخارطة الجيوسياسية العالمية، ليس من منظور قومي تقليدي، ولا من موقع آيديولوجي كما كان الشأن أيام الحرب الباردة، وإنما من منطلق رؤية واقعية لمصالحها الحيوية التي تنتظم حول محدد ثابت هو تأمين دور فاعل وحضور قوي في الفضاء الاوروآسيوي الذي تشكل قوة توازن محورية فيه.

ولعل الخطأ الأكبر في السياسة الخارجية للإدارة الأمريكية الحالية هو السعي لإقصاء الدور الروسي من هذا الفضاء، خصوصا بعد حروب البلقان وافغانستان والعراق التي أعادت روسيا للخارطة الدولية على عكس التوقعات الأمريكية.