بوتين في الخليج: نظرة تحليلية لأفق العلاقات الروسية ـ الخليجية

TT

أصبحت منطقة الشرق الأوسط التي تضم أضخم كمية من موارد الطاقة مسرحاً لوضع أمني محفوف بالمخاطر ويكتنفه الغموض، ولذلك فإن محاولة الرئيس الروسي بوتين مد جسور التواصل بين روسيا ومنطقة الخليج في هذا الوقت تُعَد خطوة إيجابية وفي الاتجاه الصحيح.

وبينما تُعَد المصالح التجارية السبب الرئيسي وراء تجدد الاهتمام الروسي بمنطقة الخليج، هناك عاملان استراتيجيان يفسران اهتمام روسيا المتزايد بهذه المنطقة الحيوية. أولاً، إن إعادة بروز دور روسيا كقوة عظمى، وإن كان على نحو متدرج وبثقة كبيرة، تفرض على موسكو ضرورة إظهار ثقلها على المسرح الدولي، وبخاصة في أعقاب سقوط نظام صدام حسين في العراق. وثانياً، هناك التخوف من أن سيناريو الوضع الأمني في الشرق الأوسط وتداعياته قد يضر بمنطقة القوقاز وآسيا الوسطى، وربما بروسيا نفسها.

ونتيجة لذلك، تطرح روسيا رؤاها وتتهيأ لكي تساهم بجهودها الدبلوماسية لتحقيق الاستقرار في المنطقة. غير أنه من غير المحتمل أن تعمل روسيا في سياق هذا الجهد على تحدي الهيمنة الأمريكية في المنطقة، وإنما ستبذل كل ما في وسعها لتذكير دول المنطقة والولايات المتحدة بأنها قادرة على سد كثير من الثغرات. إن زيارة الرئيس بوتين إلى المملكة العربية السعودية ودولة قطر (ثم الأردن أيضاً) هي الأولى من نوعها في تاريخ العلاقات الدبلوماسية بين روسيا ومنطقة الخليج. وفي يناير الماضي، قال إيغور إيفانوف، سكرتير مجلس الأمن القومي الروسي، «نرتقي الآن إلى مستوى جديد نحو توسيع آفاق الحوار السياسي مع قطر والكويت والبحرين وتعزيز التعاون الاقتصادي والتجاري مع المملكة العربية السعودية».

لقد توصلت موسكو ودول الخليج إلى أجندة مشتركة، بعد فترة طويلة من الجفاء، تشمل التعاون في مجالات النفط ومكافحة الإرهاب ومبيعات الأسلحة. ويجري هذا التحول والتركيز الجديد في سياق تعبر فيه دول الخليج عن حرصها على الإبقاء على خياراتها الجيوسياسية مفتوحة أمام كل الاحتمالات، بينما تعكف على مراجعة مدى فاعلية دور الولايات المتحدة بوصفها الضامن الوحيد لأمن المنطقة، مع مواصلة التفكير الجدي في استنباط آلية للأمن الجماعي تستوعب مجموعة من الأطراف الدولية الفاعلة.

وفي المجال الاقتصادي، تدرك دول الخليج أن روسيا، بوصفها أكبر منتج للنفط خارج نطاق منظمة أوبك، وأكبر منتج للغاز الطبيعي في العالم، لديها تأثير كبير في أسواق الطاقة العالمية.

وتأكيداً لمصداقية إعلانها أنها الدولة الرائدة عالمياً في ضمان أمن الطاقة، قامت روسيا بإنتاج 9.236 مليون برميل من النفط يومياً في يونيو 2006، وهي كمية تزيد بنحو 46 ألف برميل على ما تنتجه المملكة العربية السعودية، ومن المتوقع أن تصل كمية العرض من النفط الروسي إلى نحو 9.9 مليون برميل يومياً خلال عام 2007. ولذلك ترغب الرياض في إدارة «حوار ثنائي حول ملف الطاقة» مع موسكو، وهو الأمر الذي تم تسهيله من خلال اتفاقية التعاون في مجالي النفط والغاز ومدتها خمس سنوات، والتي تم التوقيع عليها خلال الزيارة التاريخية التي قام بها الملك عبد الله بن عبد العزيز، عندما كان ولياً للعهد لروسيا في عام 2003.

وقد تتم مناقشة فكرة إنشاء منظمة للدول المصدّرة للغاز، على غرار منظمة أوبك، مع المسؤولين في دولة قطر التي تُعَد ثالث أكبر منتج للغاز الطبيعي في العالم بعد روسيا وإيران. وبما أن نصف الاحتياطيات العالمية من الغاز الطبيعي توجد في دول منظمة أوبك، فإن مناقشة فكرة إنشاء اتحاد منتجين للغاز تكتسب أهمية خاصة في هذا التوقيت بالذات. غير أن من المهم بالقدر نفسه أن يتم التوصل إلى تدابير، ربما عن طريق إعادة فتح الحوار حول إمكانية قيام روسيا برفع مستوى تمثيلها الحالي من وضعية المراقب، وذلك لتعزيز دور أوبك التي أصبح من الصعب عليها الحفاظ على أسعار النفط في مستوياتها المرتفعة.

وعلى صلة بمجال تجارة الطاقة في الجانبين، هناك فرص لتكثيف التعاون الاقتصادي. وتسعى شركات الطاقة الروسية للدخول في مشروعات مشتركة مع دول الخليج، ومن ضمنها المملكة العربية السعودية، بينما يمكن للشركات والمؤسسات السعودية أن تستثمر في قطاع الموارد الطبيعية وفي مجال العقارات والصناعات الجوية والفضائية في روسيا.

وتُعَد الرياض شريكاً مثالياً، تحت مظلة «مبادرة الغاز» التي تُقدَّر تكلفتها بنحو 25 مليار دولار، والتي تمت مناقشتها بين الطرفين خلال عام 2003. وتتضمن هذه المبادرة مجالات توليد الطاقة الكهربائية ومنشآت تصدير الغاز الطبيعي المسيٌل وتحلية مياه البحر. وبميزانية تُقدَّر بنحو ثلاثة مليارات دولار، تمتد على مدى أربعين عاماً، تقوم شركة لوكويل النفطية الروسية بتنفيذ أضخم مشروع للغاز في الجزء الشمالي من صحراء الربع الخالي بالمملكة العربية السعودية. كما تعكف روسيا وقطر على تكثيف التعاون الثنائي في مجال الطاقة، حيث عبرت شركة غازبروم الروسية عن اهتمامها بالدخول في مشروعات مشتركة لإنتاج الغاز ومصافي التكرير في قطر.

وفي مجالات مشروعات تجارية محتملة أخرى بخلاف النفط والغاز، وفي الوقت الذي تسعى فيه روسيا جاهدة لتنويع قاعدة عملائها في مجال مبيعات الأسلحة لتشمل دولاً أخرى غير الصين والهند، وبخاصة بعد أن فقدت أسواقها المهمة المتمثلة بسوريا والعراق وليبيا، فإن دول الخليج أيضاً تبحث عن مصادر تسليح جديدة خارج إطار الدور الأمريكي في هذا الخصوص.

ومع أن روسيا تُعَد ثالث أكبر مُصدّر للأسلحة على نطاق العالم بعد الولايات المتحدة وبريطانيا، فإنها قد باعت أسلحة بقيمة 7.1 مليار دولار خلال عام 2005، وهو مبلغ أكبر من عائدات مبيعات الأسلحة الأمريكية خلال العام نفسه.

وفي المجال السياسي، هناك مجال واسع أمام موسكو لكي تعمل على إيجاد حلول للصراعات المريرة في منطقة الشرق الأوسط، وبخاصة في إيران والعراق ولبنان، إلى جانب الأراضي الفلسطينية، وذلك بحكم عضوية روسيا في المجموعة الرباعية وعلاقاتها الوثيقة مع حركة حماس، وهو ما يجعلها في وضع أفضل من معظم أطراف الأسرة الدولية الأخرى.

إن تمكن الفصائل الفلسطينية من إنهاء جولة ناجحة من الحوار في مكة واتفاقها حول تشكيل حكومة وحدة وطنية، بالإضافة إلى احتمال إجراء مباحثات أمريكية ـ إسرائيلية ـ فلسطينية في وقت لاحق من هذا الشهر، سوف يسهل على روسيا والمملكة العربية السعودية ممارسة ضغوط من أجل إعادة إحياء مباحثات السلام بين الأطراف المعنية بهذا الملف، وسيوفر زخماً كبيراً لإنعاش آمال التوصل إلى اتفاق.

وفي ما يتعلق بإيران، هناك جهود دبلوماسية مكثفة بين الطرفين في الفترة الأخيرة، وبخاصة في أعقاب تزايد وجود القطع البحرية الأمريكية في منطقة الخليج وما تبع ذلك من تصاعد لحدة التوتر في المنطقة. وبينما يبدو من المؤكد أن دول الخليج تعارض طموحات الهيمنة النووية الإيرانية، فإنها تتخوف أيضاً من احتمالات أن تؤدي أي مغامرة عسكرية أمريكية خاطئة إلى نشر المزيد من الفوضى في المنطقة. وفي هذا السياق، فبينما تستطيع روسيا أن تستخدم نفوذها المؤثر في إيران للإصرار على ضرورة كبح جماح البرنامج النووي الذي تتبناه طهران، فإن موسكو تستطيع أيضاً استخدام نفوذها في مجلس الأمن الدولي للحيلولة دون تمرير أي إجراء قد تراه موسكو مبالغاً فيه. وينبغي للطرفين، دول الخليج وروسيا، استغلال هذه الفرصة لتأكيد ضرورة توخي الولايات المتحدة وإيران جانب الحذر في سياساتهما في منطقة الخليج.

إن علاقات روسيا بإيران ذات أهمية كبيرة في هذا المنعطف الحرج. فبينما يجري تطوير محطة الطاقة النووية في بوشهر بتكلفة تُقَدَّر بنحو ثمانمائة مليون دولار، في إطار الاتفاقية الفنية الموقعة مع موسكو، هناك خطط لإنشاء وتوريد مفاعلين نوويين، وربما خمسة مفاعلات نووية، ومن ضمنها مفاعل آخر في بوشهر. وفي عام 2005، قامت الدول ذات العضوية الدائمة في منظمة شنغهاي للتعاون، ومن بينها روسيا، بمنح إيران وضعية «مراقب» في هذه المنظمة. وبالإضافة إلى ذلك، قامت روسيا بتسليم نظام صواريخ الدفاع الجوي «تور ـ ام 1» إلى إيران في ديسمبر 2006، وذلك بموجب عقد تُقدَّر قيمته بنحو سبعمائة مليون دولار، تم التوقيع عليه قبل عام.

إن من مصلحة دول الخليج ومنطقة الشرق الأوسط والعالم بصفة عامة، أنه ولحين أن تبرهن إيران على صدق نواياها السلمية وأهدافها الحقيقية، فإن على جميع الأطراف التي تزودها بالأسلحة وتتعاون معها في المجال النووي أن تكف عن ذلك. وبالتالي، فإن التمادي في هذا التعاون خلال المرحلة الحالية سيعزز فقط طموحات إيران وسعيها الدؤوب للهيمنة على منطقة الشرق الأوسط. وعلى الرغم من ذلك، فإن انخراط روسيا في قضية الملف النووي الإيراني، وسعيها لممارسة دور «الوسيط النزيه» سوف يساعد على تحقيق تطور إيجابي في سيناريو الوضع في العراق، حيث يتزايد كل يوم نفوذ إيران القوي في الشؤون السياسية الداخلية لهذا البلد الذي تمزقه الحرب، وهو ما يمثل خطراً على وحدته ويفتح احتمالات امتداد دائرة الصراع فيه وانتشار تداعياته إلى الدول المجاورة. وإلى جانب المصالح الاقتصادية، تأتي زيارة بوتين إلى الأردن في هذا السياق أيضاً. ومن المحتمل أن تتناول المباحثات المتعلقة بالاستقرار الإقليمي مجالات التعاون في مكافحة الإرهاب في ظل المخاطر والتحديات المشتركة التي يواجهها الطرفان. وبينما نجد أن دول الخليج قد نجحت إلى حد كبير في السيطرة على خطر المتطرفين والجماعات المتشددة، فإن موسكو لا تزال تطارد من تسميهم بالمتمردين الشيشان، والذين يؤيدهم ويتعاطف معهم بعض مواطني منطقة الخليج.

وبينما تسعى روسيا ودول الخليج إلى تقييم إيجابيات وسلبيات المصالح المشتركة التي تم استكشافها حديثاً، ويتخذان من الخطوات ما يساعد على ترسيخها، فإن الجزء الغالب من الخطوات العملية سوف يعتمد على الكيفية التي ترى بها الولايات المتحدة هذا السيناريو الذي بدأت معالمه تطفو على السطح. غير أنه من شبه المؤكد أن تشهد العلاقات الروسية ـ الخليجية مرحلة جديدة من التعاون الحيوي المثمر خلال السنوات المقبلة.

*رئيس مركز الخليج للأبحاث

[email protected]