عبقرية المكان: ممنوع الفشل بعد مكة

TT

كثيرة هي المؤشرات التي حفزت التفاؤل بلقاء فتح وحماس في المملكة العربية السعودية، وغالبة هي العبارات التي سبقت اللقاء وأوعزت بحتمية النجاح. وكان لجلال الدعوة وملكها مكانتهم السامية، ولقدسية المكان ورحابته عبقريته الخلاقة. لذا، تكلل المسعى بنتيجة الوعد الصادق من الجميع، واتفق الطرفان على النجاة بنجاح يحسب فضله للداعي والمدعويين، ولم يكن أمام الجميع من خيار غير نجاح فرضته كل الوقائع.

لقد كانت حقائق الصراع عنيدة‏،‏ ولم يكن لمشروع الوحدة أن ينجز على أنقاضها،.‏ حيث علمتنا تجارب أسابيع الاقتتال المريرة أن كل المحاولات التي بذلت لتهدئة هذه الحقائق كشرط للوحدة الوطنية باءت بالفشل‏، وذلك لأن مكانة العقل ملأتها العواطف الأثيرة لانفعالات التعصب والتطرف المعلق بين شُعب الإثارة الآنية، التي أدارت بالمرارات الصغيرة الصراع. فصارت للشك قواعد متجذرة بين الفريقين، وخشينا أن تتملك لها امتدادات في الجسم الاجتماعي‏ الفلسطيني بكامله.‏ لذلك كان لابد للعقل أن يعود، بعد أن اقتلعته ريح المفاجأة، وأن يُبصر الحقائق برؤية واضحة، ويمحصها ببعد نظر، ويقيمها بجلاء فكر مستقيم. لأن طريق الحل‏‏ لا يمر عبر محاربة الأسباب التي أدت الى الصراع، وإنما عبر دراستها وتوفير الحرية اللازمة للتفاوض الآمن حولها،‏ حتى تتوفر القناعات المواتية لانخراط الفريقين في مشروع الوحدة والتوحيد مجددا‏.‏ فالمشترك الوطني‏،‏ لا يعني إلغاء الخصوصيات بين فتح وحماس،‏ وإنما يتطلب، بل يستوجب، احترامها وفسح المجال له، لكي تمارس دورها ووظيفتها في إثراء مفهوم الوحدة الفلسطينية بمضامين راسخة‏،‏ تتجاوز الرؤية الأحادية والنهج الإقصائي‏.

‏لذا، كانت الدعوة للقاء مكة المكرمة موجهة للعقل، ومواجهة له أن يوقف، بدءاً، التعاطي مع انحراف التقديرات المتسرعة نحو التطرف، التي دفعت للصراع وإراقة الدم الفلسطيني. فتكون إجماع، حتى قبل بدء اللقاء، حيث أكدت الحركتان قدرتهما على انجاحه، فقالت فتح إن «لديها الإرادة والقرار» للتوصل الى اتفاق مع حركة حماس. وقال رئيس الوزراء الفلسطيني إسماعيل هنية «ليس أمامنا خيار إلا خيار الاتفاق، إذا خلصت النوايا وصدقت العزيمة وغلبنا المصالح العليا فنحن على يقين أننا سنتفق».

وجاء الفريقان بصفاء الوعد الى «قصر الصفا» المطل على الحرم المكي، وأقام وفدا فتح وحماس في بيت خادم الحرمين الشريفين، الذي يستقبل فيه ضيوفه في المدينة المقدسة. وأكدا ألا خروج من «الصفا» إلا باتفاق. وفي افتتاح جلسة لقاء الحوار الفلسطيني في مكة المكرمة، أكد الرئيس الفلسطيني محمود عباس بقوله «لن نخرج من هذا المكان المقدس إلا ونحن متفقون». أما مشعل فقال، رداً على الرئيس الفلسطيني، جئنا لنتفق ولن نغادر هذا المكان الا متفقين. ولا مجال لنا إلا أن نتفق، و«ليس أمامنا إلا أن ننجح وممنوع علينا أن نفشل»، لأن «الوضع لا يحتمل الفشل»، و«لا خيار أمامنا سوى النجاح». وصدقا الوعد.

فقد هدف اجتماع مكة المكرمة الى بحث سبل وضع حد للاشتباكات التي شهدتها غزة، وغيرها من المناطق الفلسطينية، وراح ضحيتها عشرات الأبرياء، كشرط ممهد لاتفاق أشمل، وهدف أول. فأسفر اللقاء عن هدنة عسكرية طويلة الأجل بين الجانبين، لم يستقبلها الفلسطينيون بالشك مثلما فعلوا مع غيرها، وإنما عبروا عن ثقتهم بها فانطلقت أهازيج الفرح، لافتة الانتباه الى أن ما حصل على الأرض من سفك للدماء قد محاه هذه المرة اتفاق مكة، وما يتوفر من وراء مكة من ضمانات، الثقة فيها أقرب الى التحقق من سالف الوعود، التي انهارت قبل نشر بلاغها في الشوارع.

وما كان للسعودية أن تقوم بدعوتها لاجتماع مكة لو لم تكن واثقة من قدرتها على تحقيق حلول محروسة بهذه الثقة، ومتيقنة من إمكانية حدوث وفاق واتفاق يؤدي الى هدنة طويلة الأجل، ويكون مرتكزاً لحل سياسي دائم بين الجانبين. وقد صدق الحدس والحديث، وتكللت المساعي بالنجاح المطلوب والمرغوب من كل أطرافه. فهذا بعض عبقرية المكان المقدس، ورصيد حكمة المملكة، التي سبق للقيادة السعودية ودبلوماسيتها أن ظفرت به حين انعقد لها اجماع عربي نادر في قمة بيروت، يوم أن قدمت مبادرة سلام عربية ترفع وطأة الاحتلال عن كاهل الفلسطينيين.

ولا نود هنا أن نُفصل تفاهمات «إعلان مكة» الذي طبقت عام أخباره الآفاق، اعترافاً بتقصيرنا في إمكانية إعطائه تعريفاً دقيقاً، جامعاً ومانعاً. فليس بإمكاننا أن نُعرِّف ما غشاه التكتم تعريفاً يشذ عن سلامة مضامينه، وأصالة متنه، وبلاغة روحه، ولكنها قراءة عامة يلزم بها فرض المشاركة في شأن شملتنا خصوصيته وخصنا شموله، لأن الصراع الذي قاد الفرقاء الى مكة أورثنا سقماً في الفهم، ويأساً من اعتدال الحال على جادة الصواب. ورغم كثرة انشغالنا بمسائل مختلفة حول هذا الصراع ومعه، ولكن وجدنا أنه يجمعها محور واحد وهو موضوع الحكم والمسائل التي تنصبُّ في أمر الغاية منه. فكلُّ فريق يريد تعريف مواقفه بأقوال تنقب في اللغة عن المعنى، وتتفحص المفردات عن القصد، ولكنها تنتهي جميعاً الى تلك الغاية، فلسطين حرة وشعب موحد ينتصر بعضد أمته على الاحتلال.

وحق لنا أن نقول إن مجرد اختيار مكة أوجد حالة من التقارب أوصت بوحدة في الخطاب، تشابهت كلماته، ليس فقط في الرمز والمعنى، بل حتى في الاطِّراد والانعكاس، واستهدفت حقيقة واحدة وهي حرمة الدم الفلسطيني، ومن ثم التأسيس المتين للوحدة الوطنية كغاية وهدف. فإذا أراد أي فريق أن يحكم حكماً صحيحاً بعد الآن، فلابد أن يراعي هذه الحقيقة، وإلاّ سوف يفشل وينحرف في مساره، فيحسب، بسقم المنطق وساقط الدعاوى، ما ليس بفعل صحيح نتيجة راجحة، أو ما ليس بحجَّة مقنعة منطقاً تلونه السياسة بلعنة النفاق. وقد جاءت رياح الاتفاق، كما اشتهت سفن الجميع، وسمي تيمناً «إعلان مكة»، بعد أسابيع من الاقتتال المجنون بين حماس وفتح، وبعد نحو عام من الحظر الدولي المفروض على حكومة حماس المنتخبة.

بيد أن السؤال الذي يطرح نفسه، ويتعلق بتلابيب الإجابة عنه كل فلسطيني أصابه أسى الاقتتال الداخلي واستمرار التحرش الإسرائيلي هو: مَنْ يضمن الأمن؟ لأنَّ الأمن أول ما يطلبه المواطن الفلسطيني، فقد جاء الاتفاق ليضمن، كشرط صحة، وقف الصراع الداخلي، وليقفز من بعد الى ترتيبات الحكم باعتبارها مفهوماً سياسياً شكل أصل الصراع، لأن الصراع كان فتنة تجاوزت بالعقل منطق البحث في تماسك القضايا والنظر في كثافة التحديات، فاحتارت كل التوقعات في ضبط ميقات نهاية له.

ولبيان جدل الصراع والتحولات التي تقلَّبت فيها العلاقة بين فتح وحماس، لا بد من تأكيد حقائق يناط بها التأسيس لاستمرار «إعلان مكة»، وهي وحدة المصير في ظل جسامة التحديات وثقل وطأة الاحتلال، فلا وجود للحكومة من دون المجتمع. والمجتمع الفلسطيني يملك شخصية مستقلة عن الحركات، رغم انبثاق عضويتها منه. وهنا لا بد من اتباع المجتمع في تقرير مواضعات الحكم فهو الذي يحدد معادلة المواجهة والسلام، لأن معرفة الأعمال التي يمكن أن تتطور الى حالات صراع دام، كالذي حدث، تستوجب معالجتها الرجوع الى المجتمع الذي أنابهم لقيادته، لا فتنته.

ويحمد للدبلوماسية السعودية الهادئة أنها لم تتخلف أو تبطئ خطواتها مع أزمات المنطقة المجروحة وملفاتها المفتوحة. ويُلاحظ المراقبون أن لقاء مكة المكرمة الأخير جاء بعد سلسلة من الجهود التي تبذلها المملكة للتعامل مع الأوضاع السياسية المضطربة في لبنان والعراق والأراضي الفلسطينية. ويعتمد التحرك السعودي عادة على أسلوب لم تخرجه عاديات الأحداث عن وقاره واقتداره، الى جانب المكانة الروحية التي تمثلها المملكة بالنسبة للعالمين العربي والاسلامي. فكان اختيار مكة ملتقى للأشقاء الفلسطينيين مؤشراً على علو هذه الميزة الروحية، التي استخلصت تنازلات المتحاورين قبل أن يصلوا اليها ويبدأوا الحوار، وتواصوا على النجاح من دون أن يتركوا سبيلاً للفشل.

إن الاتفاق هو ميثاق شرف ينهي حالة الاحتقان. وفي موقف الدول العربية والاسلامية منه تأييد ومؤازرة. وتستحثه وتستنهضه، في مقبل الأيام، عزيمة المملكة العربية السعودية التي أخذت على عاتقها واجب الترويج وحشد الدعم للاتفاق. لذا، وكما أوصى «إعلان مكة»، يجب على الفلسطينيين تحريم الاقتتال وتعزيز الوحدة الوطنية، وتأطير أسس الشراكة الحقة، وإعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية وتأهيلها بشكل يستوعب الجميع، ومن ثم تعميق الوفاق الفلسطيني حتى يستجيب للتحديات الماثلة والمستقبلية.

وثمة واجب على المجتمع الدولي، يبدأ بمدخل تناصر منطق العقل مع مقتضيات الحكمة، والاعتراف بأن الذي تم ما كان له أن يتحقق لولا تلاقي إرادات فلسطينية وعربية غلَّبت المصلحة الإنسانية، التي تشمل، الى جانب الفلسطينيين، كل من تهمه قضية السلام والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط والعالم، إذ لا يوجد شك الآن في أن سلام العالم يعتمد بالدرجة الأولى على استقرار منطقة الشرق الأوسط، وعقدتها فلسطين.

والمطلوب، بعد الترحيب الحار والبارد والمعتدل والحذر من عواصم العالم بالاتفاق، ألا تجهضه ذات العواصم بالشروط التعجيزية، وأن يحترم الجميع فيه قيمة الوفاق والتراضي الحر، ويعترف العقلاء بالواقع الفلسطيني الخاص والحساس، ويتعاملوا معه بجدية تعينه على تحقيق كمالاته، دعماً لمسيرة السلام الشامل في المنطقة، لأن الفشل بعد «مكة» ممنوع.

* أكاديمي ودبلوماسي سوداني في لندن