وقفة مع البيئة

TT

مضى أكثر من عام على آخر لقاء لي مع نائب الرئيس الامريكي الأسبق آل غور، والذي كان في مدينة جدة التي أتى اليها ليشارك في منتداها الاقتصادي. كان لقائي معه مطولا، شرح لي فيه أولوياته الجديدة بعيدا عن عالم السياسة وبعيدا عن مرارة خسارته الشهيرة في سباق الرئاسة الامريكية عام 2000 أمام جورج بوش، تبين لي أن أهم أولوياته تكوين إعلام مرئي جديد شبيه بالمدونات الالكترونية من خلال اطلاقه لتلفزيون كرنت، الذي يحرره ويعده المشاهدون، ولكن الموضوع الأهم كان البيئة وتحديات الحفاظ عليها من العبث الحاصل بحقها. كان آل غور رجلا مختلفا تماما عن الرجل «شبه الآلي» الذي قابلته عام 1995 في الجناح الشرقي بالبيت الابيض المخصص لنائب الرئيس مع وفد من رجال الاعمال العرب، كان الرجل صاحب قضية يملؤه حماس بها. ولم تمض بضعة أشهر حتى أطلق فيلمه الوثائقي الرائع «حقيقة غير مناسبة»، والذي يقوم ببطولته ويشرح فيه بصورة مبهرة الوضع البيئي المقلق لكوكب الارض وخطورة الوضع. وتحول هذا الفيلم مع نجاحه غير العادي الى الفيلم الأعلى دخلا في تاريخ الافلام الوثائقية، وصاحبه كتاب بنفس العنوان وعن نفس الموضوع. وتحول آل غور الى راعي قضية البيئة الأول في العالم. وانضم الى مسيرته كوكبة من الفاعلين والمؤثرين أمثال نجم السينما ليوناردو ديكابريو، ورجل الأعمال البريطاني المعروف ريتشارد برانسون ليقدموا له الدعم المعنوي والمادي. وتبقى البيئة وقضيتها في العالم العربي نخبوية لا يتعاطها إلا المثقفون والأكاديميون بشكل أساسي مع عدم إغفال أن اضرار اهمال البيئة تطال الجميع بدون استثناء. وليس هناك من دلائل أوقع ولا أدلة أبلغ من رؤية السحابة السوداء، وهي تغطي سماء القاهرة نتاج التلوث الهائل، وإلقاء فضلات وبقايا الحيوانات الميتة في نهر النيل، حتى باريس الشرق، بيروت، طالتها هي الاخرى مآسي التلوث فأصبح زحف الكسارات يطال الصخور، ويقضي على أشجار الصنوبر بالتدريج مفقدا لبنان إحدى أهم صفاته، ومؤثرا على رئته التي يتنفس منها، وهناك النفايات الضارة التي دُفنت بالسودان، والتي للحظة لم يتم اكتشاف حجم ضررها ولا تكلفة علاجها نظرا لهول المأساة، ولا يمكن إغفال كارثة جدة، هذه المدينة التي لا تزال دون شبكة صرف صحي ويبقى المتسبب فيها حرا طليقا دون عقاب! حجم الوفيات والأمراض والسرقات والتجاوزات الادارية والفساد المالي والتسيب سيبقى سرا «قذرا» لن يستطيع العالم العربي التعاطي معه ما لم تحصل مواجهة حقيقية وجادة بدون مجاملة في أسباب التدهور البيئي الحاصل، الذي يبقى بلا حل ولا تشريعات رادعة وعقوبات حازمة. البيئة باتت اليوم أحدى أهم وسائل قياس تنمية الدول وأحد أسباب تطوير أنظمة جودة الحياة، مثلها مثل التعليم والصحة والقضاء. واذا لم يتم التعامل معها بهذا الشكل ستكون الفاتورة باهظة الثمن تفوق قدرة الاجيال على تحملها. المنطقة العربية كانت دائما مقرا للحروب والصراعات، ألا يمكن أن تنطلق منها مبادرة بيئية تبين للعالم أن أبناءها فعلا معنيون بإعمار الارض والمحافظة عليها كما أمروا؟

[email protected]