العبء المزدوج

TT

لم يشهد المشرق العربي، منذ انهيار الإمبراطورية العثمانية عام 1919، حالة انعدام وزن كما يشهد اليوم: التسوية الفلسطينية تراوح مكانها بانتظار ثبات السلام الفلسطيني ـ الفلسطيني، الحالة العراقية تزداد ترديا بانتظار تفاهم عراقي ـ عراقي لا يبدو قريبا، والوضع اللبناني يتجه، وإن ببطء، نحو قيام ثنائية سنية ـ شيعية قد تنسف ما نفذ، وما لم ينفذ بعد، من اتفاق الطائف، ما يعيد طرح العقدة المزمنة في للبنان: عقدة «الهوية» القومية لهذا البلد التائه بين الغرب والشرق.

...وكل ذلك يحدث في منطقة يفترض، في ظل موازين القوى الدولية الراهنة، أن تستمد ضمانة استقرارها من النفوذ الأميركي شبه الأحادي في الشرق الأوسط، الأمر الذي يوحي بأن الخلل الراهن في استقرار المنطقة هو انعكاس مباشر لخلل أكبر في النفوذ الأميركي نفسه.

والواقع أن الحديث عن تعرض النفوذ الأميركي في الشرق الأوسط إلى «خلل» بنيوي لم يعد حديثا افتراضيا بعد التطورات السياسية والأمنية على الساحة العراقية، حتى أن رئيس «المجلس الأميركي للعلاقات الخارجية»، ريتشارد هاس، اعتبر أن ما تشهده المنطقة حاليا هو «نهاية العهد الأميركي». وذهب هاس إلى أبعد من ذلك بتشبيهه المرحلة الأميركية الراهنة في الشرق الأوسط بمرحلة انهيار النفوذين الفرنسي والبريطاني في الشرق الأوسط في أعقاب الحرب العالمية الثانية.

ربما استبق استنتاج رئيس «المجلس الأميركي للعلاقات الخارجية»، ببضع سنوات، مصيرا لم يعد مستبعدا للنفوذ الأميركي في المنطقة ـ خصوصا إذا طورت إيران ترسانتها النووية وعادت روسيا إلى لعب دور القوة العالمية الثانية في المنطقة.

إلا أن المفارقة اللافتة في هذه الحالة أن يصبح العرب في موقع المضطر لأن يدفع ضريبة النفوذ الأميركي في عزّه...وفي ذلّه أيضا.

يوم كان النفوذ الأميركي على أوجه في الشرق الأوسط لم تشعر واشنطن يوما بضرورة تقديم «مكافأة» تذكر للدول العربية المعتدلة، والمصنفة في خانة «أصدقائها»، تعوض عليها بعض ما تعانيه من صداقتها المتعبة، رغم أن هذه الدول لم تقصر، خصوصا في إطار مؤتمرات القمة العربية، في طرح عروض متفق عليها جماعيا لتسوية قضيتهم الأم، أي القضية الفلسطينية... فكان جل ما جنته من صداقتها للأميركيين «شماتة» العروبيين ونقمة الإسلاميين.

أما اليوم، وبعد أن أصبح النفوذ الأميركي على عتبة الأفول، فقد أصبحت الدول العربية المعتدلة معرضة، من جديد، لدفع ضريبة أفوله أيضا. وإذا لم يعد خافيا أن واشنطن لم تطمح من عملية الإطاحة بنظام صدام حسين إلى نشر الديمقراطية في الشرق الأوسط بقدر ما تطلعت إلى تبديل الأمر الواقع في المنطقة لصالح تعزيز نفوذها فيه، فقد حصدت من تنفيذ الفصل الأول من هذا السيناريو نتائج عكسية إذ صبت الإطاحة بصدام حسين في خانة تعزيز النفوذ الإيراني على حساب النفوذ الأميركي وحوّلت حلفاء إيران الشيعة في العراق ولبنان، إلى المستفيد الأول من انهيار نظامه.

من الواضح أنه بقدر ما يتراجع نفوذ الرئيس جورج بوش داخل الكونغرس الأميركي بقدر ما يفقد البيت الأبيض قدرته على حسم أزمات الخارج. وفي ظل هذه المعادلة تبدو الأيام المتبقية من عهد الرئيس بوش مرشحة للمساهمة في تآكل النفوذ الأميركي في الشرق الأوسط عوض تعزيزه. وعليه يصح التساؤل: إذا كان النفوذ الأميركي عبئا على العرب في أوج مجده... فقد يصبح انحساره عبئا أكبر عليهم، خصوصا أن عامل الزمن لا يعمل لصالح إدارة بوش. وذلك يعني، في حال استمرار انحسار نفوذ الولايات المتحدة في الشرق الأوسط وتوصل إيران إلى تطوير سلاح نووي، أنه لن يكون مستبعدا أن يصبح ما كان يعرف بالهلال العربي الخصيب هلالا إيرانيا يبدأ في طهران... وينتهي في الضاحية الجنوبية لبيروت.