لا محل للتردد العربي بعد اتفاق مكة

TT

اذا كانت واشنطن تراهن على فشل تشكيل حكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية، فلماذا لا يتحرك العالم العربي لإنجاح التجربة، وإذا كانت «الرباعية» تنتظر تشكيل الحكومة لتحدد موقفها منها، فمن واجب العالم العربي الا ينتظر دوره، وإنما يتعين عليه تبني «تسويق» اتفاق مكة، وان يعتبره خطوة ليس فقط باتجاه وقف نزيف الدم الفلسطيني، وإنما ايضا باتجاه رفع الحصار الظالم، على الأقل من جانب الدول العربية.

لم يعد سرا ان واشنطن وتل ابيب تضغطان بشدة على أبو مازن لإفشال حكومة الوحدة الوطنية والتراجع عن اتفاق مكة. وهذا ما عبرت عنه الاذاعة العبرية في بثها يوم 21/2/2007 ، اذ نقلت عن مصادر محيطة بوزيرة الخارجية الامريكية قولها ان السيدة رايس عاقدة العزم على استغلال كل لحظة وكل فرصة من أجل ثني ابو مازن عن تطبيق اتفاق مكة، كذلك لم يعد سرا ان بعض الاطراف الفلسطينية في الداخل لم تكن سعيدة بالاتفاق. وهي ذاتها التي رفضت الاشتراك في الحكومة منذ اللحظات الاولى التي اعقبت ظهور النتائج الاولية للانتخابات في العام الماضي. كما انها ذاتها التي حرصت على افتعال الازمات وتأجيج الفلتان الامني طيلة العام المنصرم، ولكن في حين يئست تلك العناصر الاخيرة من المراهنة على اسقاط الحكومة، الامر الذي دفعها في النهاية الى القبول باتفاق مكة (حتى اشعار آخر على الاقل)، فالشاهد ان الادارة الامريكية ومن ورائها الحكومة الاسرائيلية، نفسهما اطول، وهما لن يكفا عن السعي لإجهاض فكرة حكومة الوحدة الوطنية، او على الاقل لمواصلة حصارها والضغط عليها بكل السبل اذا لم تستجب للطلبات الاسرائيلية، وهنا تبرز أهمية الدور العربي الواجب سواء في مساندة ابو مازن في التزامه بالاتفاق أو في تشجيع الفصائل الفلسطينية على التمسك بالمشاركة في الحكومة الجديدة، أو في اقتناع الرباعية بأهمية التعاون مع تلك الحكومة، او اقتناع واشنطن بواسطة اصدقائها «المعتدلين» في العالم العربي ان لم يكن بالتعامل مع الحكومة الفلسطينية، فبالكف عن ملاحقتها والتحريض عليها والإصرار على حصارها.

لقد حقق الفلسطينيون انجازا مهما. حين وافقوا على اعلان مكة، وفي تصريحات القيادات المختلفة التي سمعناها طيلة الايام الماضية فإنهم لم يكفوا عن التعبير عن الالتزام به والتمسك بحكومة الوحدة الوطنية، كما ادت المملكة العربية السعودية ما عليها، حين وجهت الدعوة الى قادة حركتي فتح وحماس للاجتماع في رحاب مكة المكرمة، واستثمرت علاقاتها القوية مع الجميع، كما استثمرت المرحلة الحرجة التي وصل اليها الطرفان، حيث ادرك كل منهما انه ليس امامه سوى ان يتوصل الى اتفاق مع الآخر، وظفت المملكة هذه العوامل، بتدخل شخصي من الملك عبد الله بن عبد العزيز لصالح إنجاح الوساطة والخروج بالاتفاق الذي فاجأ كثيرين، ومعلوماتي ان الولايات المتحدة ذاتها كانت من بين الذين فوجئوا بالإنجاز الذي تم، حيث كانت المراهنة الامريكية والإسرائيلية معقودة على فشل المحاولة، سواء بسبب التناقض بين المشروع السياسي لكل من فتح وحماس، او بسبب الاحتشاد الامريكي والدولي وراء ابو مازن وجماعته، الذين افترضوا انه يوفر لهم ثقة تشجعهم على التشدد في مواجهة قيادة حماس.

ما المطلوب الآن؟

الانتهاء من عملية تشكيل الحكومة بات ضرورة ملحة، لقطع الطريق على الذين يحلمون بإفشالها، ولكي يوضع الجميع امام الامر الواقع، خصوصا دول الاتحاد الاوروبي، ومعلوماتي في هذا الصدد ان امورا كثيرة حلت في عملية التشكيل، بما فيها منصب نائب رئيس الوزراء، الذي اتفق على ان يكون من الضفة الغربية، واقوى المرشحين حتى الآن هو السيد سلام فياض الذي اختاره ابو مازن ليكون وزيرا للمالية في الحكومة الجديدة، بالتالي فالشائعات التي اطلقت ورددتها بعض الصحف، متحدثة عن ترشيح محمد دحلان لهذا المنصب، لا اساس لها من الصحة، اولا لأن الخلاف حوله كبير حتى داخل فتح نفسها، فضلا عن حماس بطبيعة الحال، وثانيا لانه من غزة وليس من الضفة. أما الموقع الذي لا يزال محل جدل فهو منصب وزير الداخلية، الذي اتفق على ان ترشحه حماس ليوافق عليه ابو مازن، وقد رشحت احد الضباط الذي كان قد امضى حوالي عشر سنوات داخل صفوف فتح، ولكن ابو مازن لم يتحمس له، حسبما نقل مقربوه عنه، ولذلك فإن قيادة حركة حماس تبحث عن بديل عنه. وحسب مصادرها فإن الاتفاق حول شاغل المنصب لن يكون صعبا، لسبب جوهري هو ان ارادة التوافق قائمة على الجانبين، وبهذه الارادة يتم التفاهم الآن حول من يشغل منصب وزير الخارجية، الذي رشح له ابو مازن الدكتور زياد ابو عمرو عضو المجلس التشريعي الذي نجح في غزة بأصوات حماس، وكان اسمه على قائمة «التغيير والإصلاح» التي خاضت بها الحركة الانتخابات، ورغم انها شخصية مقبولة من حماس، الا ان قيادتها رشحت للمنصب الدكتور مصطفى البرغوثي عضو المجلس التشريعي عن كتلة فلسطين المستقلة، ولم يحسم الامر بعد، لكن المفهوم انه ليست هناك مشكلة حول الموضوع، وإنما هو تباين في الآراء فقط.

معلوماتي ايضا ان المشاورات حول التشكيل لم تتأثر برفض الجبهة الشعبية المشاركة في الحكومة، رغم الحرص على ضم ممثليها الى الفريق الحاكم، ولكن تمسك ممثلي الجبهة بالحصول على عدد اكبر من الحقائب، تفوق نسبة تمثيلهم في المجلس التشريعي التي لا تتجاوز 6 اعضاء، هذا الموقف تعذرت الاستجابة له كما قيل لي، فآثروا الانسحاب، الذي قيل في تبريره انه تم «لأسباب سياسية»، ولم يكن ذلك دقيقا، ومن المؤشرات الجيدة في هذا الصدد ان الانسحاب لم يخل بالعلاقات الايجابية لقيادة الجبهة مع قادة حماس وفتح، حيث ظلت جسور التفاهم بين الجميع موصولة، ولم تنقطع بسبب ذلك العارض.

ملف «الشراكة» لا يزال معلقا، ويتم التعامل معه بحذر شديد، اذ المعروف انه بعد اتفاق مكة تم تشكيل لجنة بهذا الاسم تتولى هذه المهمة تضم عضوين من حماس، واثنين آخرين من فتح، لكن مفهوم الشراكة لم يتم الاتفاق عليه بعد. فالاتجاه الغالب في فتح يرى انها مقصورة على التمثيل في الحكومة وفي المجلس التشريعي، في حين ان حماس تعتبرها شراكة في مختلف مؤسسات السلطة. وتتضح اهمية الفرق بين القراءتين اذا تذكرنا ان فتح ظلت تمارس السلطة منفردة منذ كانت، وعلى حد تعبير احد القيادات فإن الخيمة الفلسطينية ظلت طول الوقت معتمدة على «عامود» واحد تمثل في حركة فتح. ولكن نتائج الانتخابات التشريعية كشفت عن ان هذه الحقيقة التاريخية لم تعد قائمة، وان حماس ظهرت كقوة موازية عند الحد الادنى، الامر الذي فرض واقعا جديدا يتعين الاعتراف به، بمقتضاه اصبحت الخيمة الفلسطينية محمولة على عامودين وليس عمودا واحدا، ومصدر الخلاف في هذه المسألة يكمن في ان قيادات فتح تريد استمرار الوضع القديم، في حين ان قيادات حماس ترى ان ذلك الوضع يمثل واقعا تم تجاوزه وانتهى أمره.

تتجلى المشكلة في محيط القيادات الادارية التي جميعها لها مواقفها في تنظيم فتح، لكن المشكلة اكثر تعقيدا فيما يخص الأجهزة الأمنية، المغلقة تقريبا على عناصر التنظيم، الأمر الذي جعل ولاءهم له مقدما على اية ولاءات اخرى. وهو وضع اذا فهم في الماضي، وجرى احتماله لسبب أو آخر، فإن الوضع المستجد لم يعد يحتمله، الامر الذي دفع وزير الداخلية في الحكومة الحالية الى استحداث «قوة تنفيذية» أخرى يمكن ان تأتمر بأمره في حفظ النظام، خصوصا بعدما اثبتت التجربة ان الاجهزة الامنية التقليدية كان لها دورها الاساسي في إشاعة الفلتان الأمني في القطاع، الذي استهدف تعجيز الحكومة وإفشال خطواتها.

هذا الموضوع محل بحث مستفيض الآن بين أعضاء لجنة الشراكة، ويراهن البعض على أن الروح الايجابية التي أوصلت الجميع الى اتفاق مكة، كفيلة بالتعامل مع ملف الشراكة على نحو يوصل الى تفاهم معقول، يخدم الاستقرار ويؤمن مسيرته.

الدور العربي مطلوب في المشهد ايضا على مستويين، مستوى نجاح الاتفاق، ومستوى الدفاع عنه وتسويقه ـ كيف؟

ليس خافيا ان بعض الدول العربية لم تتدخل طوال العام الماضي لإصلاح ذات البين بين الفلسطينيين، وإنما انحازت الى الرئاسة ضد الحكومة، وعبرت عن انحيازها ذاك، اما بالتصريحات السياسية أو بالدعم المالي وأحيانا بتقديم السلاح وتدريب القوات، وهذا الانحياز، الذي تم في بعض الاحيان بالوكالة عن جهات أخرى، كان له أثره السلبي الذي ادى الى تعميق الفجوة بين الحركتين الكبيرتين، حيث انه اعطى انطباعا لبعض قيادات فتح بأن لهم ظهيرا عربيا يساندهم، إضافة الى الاطراف الدولية المعروفة، الأمر الذي ادى الى زيادة التشدد والمعاندة من جانبهم في رفض التفاهم مع حماس، على النحو الذي تابعه الجميع طيلة العام الماضي.

هذا الموقف المساند لأبو مازن في مواجهة حماس جرى اختراقه بنجاح وساطة المملكة السعودية، وهي الدولة التي ترتبط بعلاقة وثيقة مع الولايات المتحدة، الامر الذي يفترض ان يرفع الحرج عن الدول العربية الاخرى التي تصنف امريكيا بأنها «معتدلة». ذلك ان السلوك السعودي ضرب مثلا في ان العلاقة الجيدة مع واشنطن تحتمل تباينا في المواقف معها ازاء موضوع حكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية، ماهية هذا الاختراق تكمن في انه يفتح الباب امام بقية العواصم الأخرى «الصديقة» لكي تحتشد وراء اتفاق مكة، وتنتقل من مجرد «الترحيب» بالاتفاق الى مرحلة انهاء المقاطعة، التي كان مجلس الجامعة العربية قد قررها في وقت سابق.

غير اننا لم نشهد التحرك العربي المطلوب، حيث مازالت العواصم التي تتعامل بحذر وترقب مع الحكومة الفلسطينية على موقفها. كما ان الجامعة العربية التزمت بذات الموقف، انتظارا ربما لتشكيل الحكومة الجديدة، في المقابل، فإننا وجدنا وزيرة الخارجية الامريكية في المنطقة تعمل على اجهاض مشروع الحكومة، الامر الذي يسوغ لنا ان نقارن بين التردد العربي الذي فقد مبرره والمبادرة الامريكية بأهدافها المعروفة. ويضاعف من شعورنا بالدهشة والاستياء ان الظروف مواتية الى حد كبير في المرحلة الراهنة لممارسة الضغط العربي لصالح استحقاقات القضية الفلسطينية، خصوصا في ظل ارتباك السياسة الامريكية وضعف موقف الرئيس بوش بعد هزيمة حزبه في الانتخابات النيابية الأخيرة، وفي ظل التراجع المماثل في الموقف الاسرائيلي بعد فشل العدوان على لبنان وتفجر مسلسل الفضائح الداخلية التي كشفت عن مدى هشاشة وضعف الطبقة السياسية الحاكمة هناك.

من أسف ان هذا التردد العربي اصبح يمثل نقطة الضعف الاساسية في الملف الفلسطيني، الامر الذي يدفع البعض الى التعويل على الموقف الاوروبي في حدوث اختراق لعملية المقاطعة.. هل هذا معقول؟