الحق على الطليان!

TT

يكره العرب الولايات المتحدة وإسرائيل لأسباب كثيرة، وبالنسبة لي فإن هناك سببا إضافيا وهو أنك لا تستطيع أن تدير نقاشا أو تطرح حجة تخص أمورنا العامة على هذه الصفحة أو صفحات أخرى، أو في هذه الصحيفة أو صحف أخرى، إلا وتقفز لك فورا واشنطن وتل أبيب إلى المقدمة، وهو ما يعني عمليا انتهاء النقاش قبل أن يبدأ. وحينما كنا في جامعة القاهرة خلال الستينيات قال شاعر متهكما على الدولة: أتعارضني..

أتعارض مشروعي..

حسنا أنت شيوعي ..

والآن تغيرت الشطرة الأخيرة لكي تكون حسنا أنت أمريكى لكي تقطع جهيزة قول كل خطيب، ولا يصبح على أحد ـ قوى سياسية أو فكرية ـ حرج ولا مسؤولية بعد أن تحملها الإسرائيليين والأمريكيين.

والحالة في العالم العربي أنه إذا ما وجهتك قضية وعجزت تماما عن حلها، فما عليك إلا لوم شخص أو دولة أخرى، ولو كان هذا الشخص هو رئيس الولايات المتحدة وكانت هذه الدولة هي أمريكا، فقد غفر لك ما تقدم من ذنبك السياسي وما تأخر. وهناك مثل مشرقي ذائع يقول عن ذلك «الحق على الطليان» ومعناه أنه إذا وقعت في مشكلة فلا تلوم نفسك وإنما ضع الملامة على الإيطاليين الذين لا يعرفون شيئا عن الموضوع. وربما كانت الحكاية هي أن الإيطاليين أيضا يلقون اللوم على الآخرين مثلنا تماما، وقد شاهدت ذلك بعيني عندما دعتني السفارة الإيطالية للمشاركة في واحدة من الحلقات النقاشية التي أعدت لها باعتبار إيطاليا ضيفا للشرف في معرض القاهرة للكتاب. وكان المشاركون في الحلقة ثلاثة من المرموقين الإيطاليين، ومعهم ثلاثة من المرموقين أيضا من المصريين. وكانت المفاجأة هي أن كل الذين شاركوا في النقاش سواء من على المنصة أو من الجمهور ألقى باللائمة في كل المصائب التي تجرى في الشرق الأوسط على الولايات المتحدة ورئيسها، بينما خرجت إيطاليا الحليفة لأمريكا في حلف الأطلنطي وفي الحرب في العراق كما الشعرة من العجينة، أما مصر الصديقة لأمريكا فقد خرجت من الموضوع سواء بسبب ما فعلته أو لم تفعله.

وبالطبع فإنني مثل الآخرين أقوم بنقد الولايات المتحدة، وطالما كانت هي الدولة العظمى الوحيدة الباقية في الدنيا فلا بد وأنها تتحمل مسؤوليات أكثر من غيرها، وبالتأكيد فإن الرئيس الأمريكي الحالي جورج بوش هو من أكثر رؤساء أمريكا حماقة وعجزا عن اتخاذ قرارات صحيحة. ولكن المسألة هي أنه لا ينبغي أن يؤدي كل ذلك إلى تملص كل الأطراف من المسؤولية، خاصة عندما لا يكون للولايات المتحدة دخل في الموضوع، أو أن هناك أطرافا أخرى تتحمل القدر الأكبر من المسؤولية. وقد لفت نظري عمود كتبه الكاتب الكبير سلامة محمد سلامة تحت عنوان «حرب فتح وحماس» في «أهرام» الخميس الأول من فبراير جاء فيه «ليس شك (لا حظ هنا ليس شك!) في أن الحرب الأهلية التي اشتعلت في فلسطين بين فتح وحماس، تخفي وراءها أصابع أمريكية (كما هي العادة) وبمشاركة أطراف أوروبية وعربية، توهمت أنها إذا ما نجحت في خنق حكومة حماس سوف تهيئ «الأفق السياسي» الذي تحدثت عنه كوندوليزا رايس (أمريكا مرة أخرى) لإحياء مفاوضات السلام».

الحالة هكذا كلاسيكية والحق ليس على الطليان وإنما بما ليس فيه شك على الأمريكيين وبعض تابعيهم من العرب والأوروبيين، أما المتقاتلون أنفسهم من فتح وحماس، والذين أشهروا السلاح، والذين ضغطوا على الزناد، وهؤلاء الذين قاموا باختطاف قيادات الطرف الآخر واعتبارهم أسرى حرب، فإنهم لا يتحملون أي قدر من المسؤولية. فالولايات المتحدة لم تنوم بعض العرب مغناطيسيا فقط، بل انها أيضا قامت بتنويم دول كبرى مثل ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وإيطاليا أو27 دولة من دول الاتحاد الأوروبي ناتجها القومي الإجمالي بات يزيد على ناتج الولايات المتحدة. أما قيام حماس بعمل جيش خاص بها مواز للأجهزة الأمنية الفلسطينية، وفشلها في تطبيق مشروعها وبرنامجها، وعجزها عن تحرير الأرض، وتنمية المجتمع، فكل ذلك لا تتحمل عنه مسؤولية تذكر.

ومصدر اللوم هنا معروف وهو أن الولايات المتحدة توقفت عن منح الحكومة الفلسطينية المعونات المختلفة ثم نقلتها إلى الرئاسة الفلسطينية، وكذلك فعلت الدول العربية والأوروبية. ولم يكن ذلك لأن كل هذه الأطراف تكره حماس، وإنما لأن هذه الدول قررت هذه المعونات طبقا لاتفاقيات أعلنت منظمة حماس أنها لا توافق عليها ولا تتبناها، بل انها انتخبت لأنها ترفضها، ومن ثم فإن مهمتها هي وضع عملية الرفض هذه موضع التطبيق. وبالتأكيد فإن كل هذه الأطراف كانت واضحة في هذا الربط بين المعونات والاتفاقيات، بل ان برلماناتها لم توافق على هذه المعونات إلا اعتمادا على هذا الربط، ومن ثم بات مستحيلا فك هذا الارتباط لمجرد أن الشعب الفلسطيني كان له خيار آخر. ففي مثل هذه الحالات فلا بد أن حماس تعرف نتيجة مواقفها وأنها مع تمسكها بها سوف يكون عليها البحث عن مصدر بديلة. ويبدو أن هذا المصدر كان ممثلا في إيران، ولكن طهران مهما كان كرمها لا تستطيع أن تحل محل المجتمع الدولي بأسره. كل هذه كانت معطيات تتحمل حماس وحدها مسؤولية عدم فهمها والتعامل معها، فالقضية ليس أن يكون لدى حماس برنامج أصولي متشدد، وإنما أن يكون لها القدرة على تطبيقه ووضعه موضع التنفيذ.

ولكن حماس فشلت في تطبيق برنامجها لأنه لا يرتكز على حقائق موضوعية جعلتها تلقي اللوم على كل الأطراف الأخرى، بدءا من الطرف القريب ممثلا بمنظمة فتح التي أجرت الانتخابات التي جاءت بحماس إلى السلطة. وفشلت مع حماس الطبقة السياسية الفلسطينية التي عجزت تماما عن إدارة صراعاتها بطريقة سلمية لأنها أدخلت المزايدة والضجيج في المعادلة السياسية وليس الحكمة، والحصافة والإدراك الكامل أن المهمة الأولى للسياسة في بلد محتل هي التخلص من الاحتلال. وهو فشل تاريخي يرجع إلى وقت طويل، فلم يكن هناك صدفة أبدا أن الحركة الوطنية الفلسطينية ـ بأجنحتها المختلفة ـ لا تزال هي الحركة الوحيدة ربما في العالم التي عجزت حتى الآن عن إقامة دولتها المستقلة. فالحقيقة أنه لا يوجد جديد، بنفس الدرجة التى تخرج فيها هذه الطبقة كالشعرة من العجينة دون تحمل أي قدر من المسؤولية.

على أي الأحوال ثبت أن الأصابع الأمريكية ليست حاسمة، عندما تتدخل أصابع سعودية حانية لكي تصل إلى اتفاق مكة، وأصبحت المسألة واقعة كما كان الحال في كل الأوقات على عاتق الفلسطينيين مرة أخرى. وهي ذات المسؤولية التي كانت واقعة على كتف الطالبان في أفغانستان، وصدام حسين في العراق، والجبهة القومية في السودان، والمحاكم الشرعية في الصومال، والجبهات المسلحة الإسلامية في الجزائر، وكل جماعات وحكومات وشعوب، ودول عربية، فصحتها النفسية والبدنية، ومصالحها الوطنية والقومية، تتعرض لنفس الجراثيم والميكروبات العالمية التي تتعرض لها بقية شعوب الأرض، ولكنها وحدها هي التي تفشل وتنهار وتشكو وتئن وتلطم الخدود وتعيش الاستبداد والتخلف لأنها ببساطة لا تعيش العصر والحاضر أو تتطلع إلى المستقبل، بل على العكس تعيش الماضي وتمجده باسم الأصولية مرة، وباسم الممانعة مرات، ولكن الباقي في كل الأحوال هو بقاء التخلف والاحتلال على ما هو عليه.