العراق.. «إلا حكايات النساء»!

TT

دعوى اغتصاب زينب الجميلي، أو صابرين الجنابي، وقل ما شئت من الأسماء والكُنى، أمر يحدث في العوالم المتقدمة والمتردية. وما أكثر السطو واغتصاب النساء في أكثر المدن محافظة، وبين أقوى العشائر شكيمة! وسوى كانت الدعوى صادقة أم كاذبة، لتدبير سياسي ضيق، فالإيجاب فيها هو أن الحرية والمطالبة بالحقوق ضد جيش الدولة ما باتت ممنوعة، ولم تعد الحصون منيعة، مثلما كان الحال عليه سابقاً، وأن صمت المرأة على ضيمها، خشية من العُرف العشائري «غسل العار»، اختُرق علناً! وما أن تلقف الجمهور قضية صابرين، حتى بثت قناة «الجزيرة» شريطاً مسجلاً «لمغتَصبة» أخرى، أم لعدد من الشباب، ولا يستبعد أنه وقع ظلم على واجدة التلعفرية، لكن تجربة هذه القناة مع تسجيلات تجارية ومزيفة سابقة تستدعي التشكيك!

لم أعهد اسم صابرين، وهو مثلما وردت الأخبار اسم شهرة الجميلي، سائراً بين العراقيات، فالعادة أن يسمينَّ بصبرية لا صابرين. لذا عندما سمعت بالاسم «أوهمني أمراً»، وأشغلني فكراً! حتى ظهر اسمها زينب، إحدى نسوة عشيرة الجُميلات، التي ترأس منها الجمهورية العراقية الإخوان: عبد السلام (قُتل 1966) وعبد الرحمن عارف. وينتمي لها الرجال، الذين سلموا سلطة الأخير ابن عشيرتهم ومؤتمنهم على أمنه وأمره، في 17 تموز 1968، إلى عشيرة آل بوناصر.

ليست جريمة اغتصاب صابرين، إن حصلت بالفعل، جديدة، ذلك إذا علمنا أن الجنود العراقيين، في الأنظمة السابقة، لم يكونوا أطهاراً، في لحظات الزهو بالنصر، وهم يغيرون على القرى والمدن. ولا يخفى أن في دوائر الأمن السابق، كان هناك مختصون بالاغتصاب، لأخذ الاعترافات من الرجال والنساء! لكن، لا شكوى تظهر إلى الملأ! أما الآن فلا قوة قانونية تمنع من فضح المستور. على أية حال، لا يبدو الخذلان الاجتماعي في القضية نفسها، بقدر أخذها واستغلالها ضمن مجريات المحاصصة، والانفلاق الوطني. قُدمت قضية زينب بانتمائها إلى طائفة، والمتهمون من طائفة أخرى، لا مدعية ومدعى عليه!

تقدمت صابرين ببلاغها الجنائي، وقدمت اعترافاً عبر الفضائيات، ولو صدقت ليذهب الجناة إلى أتون الجحيم، وإن كذبت وتسترت وسايرت مجاميع القتلة فقد أساءت لبلادها أولاً، ولعينيها الفراتيتين ثانياً، واللتين لمثلهما قال ذِو الرُّمَّة (ت 117هـ): «وعينان قال الله كونا فكانتا...». لقد تحول ادعاء أو شكوى صابرين بسرعة فائقة إلى بلاغ سياسي مذهبي، حتى دخل فيها نائب رئيس الجمهورية، ثم رئيس الوقف السُنّي. وبالتأكيد لو لم يكن بناء السياسة العراقية على أساس طائفي مناطقي، لم يُنظر إلى القضية سوى أنها قضية جنائية، لا يجب أن يرحم القانون مرتكبيها! لكن، أُريد للمواجهة أن تتسع إلى ما بين الطائفتين. حيث أسرع رئيس الوزراء، وقبل التأكد، من نفي القضية، وتبرئة الجنود والضباط! هذا، كل «حزب بما لديهم فرحون»!

أجد دعوى صابرين الجنابي، مثل دعاوى تدنيس المقدسات، أُضعف جانبها الجنائي بتسييسها، وتضخيمها، إن حصلت بالفعل، وليس من السياسة، ولا من الكياسة تقديمها بهذه الطريقة. الحكاية أكبر من هذه بكثير، إنها حكاية وطن تتمزق أجساد أبنائه يومياً، وتاريخه مهدد بالانهيار، فلماذا التقصير أو الانكماش في تأييد الخطة الأمنية ببغداد؟ إنها المحاصصة الطائفية، التي خلقت تراثاً أخلاقياً رثاً، يتضح ذلك من العراك بين أعضاء مجلس النواب، وهو حال إيجابية لو كان مبنياً على أساس وطني. لا يحاسب النائب الفاسد، أو المتورط بالقتل، لأن ممثلي طائفته يذودون عنه، ولا يُتخذ قرار بحل ميليشيا من الميليشيات لأن ممثلي طائفتها يذودون عنها. ولا يُنظر في قضية كبرى مثل قضية جُند السماء، حيث القتلى فاق المئتين، لأن فضيحة قد تنتظر مسببيها. بل ويُختلف حول اتخاذ قرار بتفتيش دار لأنها تحت حماية الطائفة! وهكذا دواليك. وإذا استمرت هذه الحال كان المحال «أيصير يتقدم قطر مثل العراق؟» (ملا عبود الكرخي)!

بطبيعة الحال، الأحزاب الدينية، من شيعة وسُنَّة، هي التي تدير الدولة، عبر التحالفات والاصطفافات، وهي المؤثر الأول في العملية السياسية، وهي وإن حاولت وتحاول تجاوز عِقدة الطائفة، إلا أنها لا تقوى على ذلك. فما حاوله حزب التحرير، الذي ظهر بالعراق في الخمسينيات امتداداً لجماعة أردنية، في إيجاد حزب إسلامي لا يخضع للتصنيف الطائفي، اصطدم بالاختلاف حول مفهوم الإمامة، يفهمها السُنَّة شوروية لا نصية، بينما يفهمها الشيعة أصلاً مكن أُصول العقيدة. هذا من حيث التمايز الفكري، وصعوبة أو استحالة التلاقي خارج نظام مدني.

لا يتجاوز ما نسمعه من خطابات المسؤولين والسياسيين من الأحزاب الدينية، حول عدم المفاضلة بين العراقيين، حدود المجاملة بالكلمات. أما الحقيقة هو التعامل الطائفي المتجذر في الخطاب الديني السياسي نفسه. وكل حزي ينظر إلى خصوبته داخل طائفته. ونتيجة عدم قدرة هذه الأحزاب على تجاوز قيودها الفكرية والآيديولوجية، وتراث الخلاف المذهبي، تراكمت الأحداث، وشحت حلول المعسرات من مشكلات البلاد. ولعل مرارة التجربة ستقود منظري المحاصصة الطائفية والقومية إلى الاعتراف بقصور تنظيرهم، وأنهم اساءوا بحق العراق وشعبهم، ويتحملون مسؤولية أخلاقية تجاه وحدة البلد الاجتماعية ونسيجها الموحد المختلف. كيف لا، وها هي المحاصصة دخلت في «حكايات النساء»، قُدمت المغتصبة سُنيَّة والمغتصب شيعي، لا ضحية ومجرم!

لقد تبدلت المفاهيم، وبتنا لا نتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود في ما يجري. تثور الثائرة عندما تفتش دار، أو يُداهم مسجد أو حسينية، مع التجاوز على قدسيتها بتحويلها إلى مخبأ للأسلحة، ووكر للاعتقال والاستجواب، وتجميع الأسلاب، وما تتولد فيها من نوايا تجنيد العصابات، وتشخيص مَنْ يُهجر ومَنْ يُقتل! وأول العلائق المحتج بها، في تفتيش تلك الأماكن، هي المقدسات: إهانة المحراب، بعثرة الكتاب، تخطي المصلين، هتك حرمة النساء، تصفية أتباع أهل البيت، تصفية أهل السُنَّة، وغيرها من معطلات استتباب الأمن.

لا حل إلا بحكومة جامعة، تأتي عن طريق الأحزاب لا عن طريق الطوائف، لا يتهمها السُنة بطائفية شيعية، ولا يتهمها الشيعة بطائفية سُنيَّة، ولا يتهمها الكورد بشوفينية عروبية. ومن المعلوم، أن الطائفية السياسية ما زالت محصورة سياسياً في الأحزاب الدينية، التي بمجملها تحجب، في داخلها، شخصيات ذات حماس وطني ديمقراطي من ممارسة نشاطها السياسي خارج المؤثر الطائفي. لكن، كيف السبيل، والقوم بين مشرق ومغرب، وبين مصدق ومكذب، وحسبنا للمعاندة الطائفية السياسية كل حساب «إلا حكايات النساء»!

[email protected]