ربيع أفغانستان: باكستاني أم إيراني؟

TT

الأحداث في أفغانستان تنذر ـ كما هو متوقع ـ بهجوم الربيع. لكن مع حرب محتملة أخرى تلوح في الأفق، تتداخل حسابات دول معنية وحكومات إقليمية.

في 25 من الشهر الماضي، كتبت صحيفة «نيويورك تايمز»، أن الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش، قرر أخيرا توجيه رسالة حاسمة إلى الرئيس الباكستاني الجنرال برويز مشرف، كي يحّجم نشاط طالبان فوق الأراضي الباكستانية، أو يواجه قطع المساعدات الأميركية عن بلاده.

تعرف واشنطن أن الاقتصاد الباكستاني يزدهر عندما تتدفق على تلك البلاد رؤوس الأموال الأميركية، وكان وزير المالية الباكستاني السابق شهيد جويد بوركي، قد حذر أخيرا من أن الشبح الذي يطارد الاقتصاد الباكستاني، هو أن تقرر واشنطن سحب قواتها من أفغانستان وقال، انه عندما تغدق واشنطن المساعدات الاقتصادية والعسكرية على باكستان لخدمة أهدافها الجيو ـ استراتيجية يزدهر الاقتصاد الباكستاني، وعندما لا تبالي واشنطن يتدهور الاقتصاد، وقد حصل هذا إبان حكم ايوب خان. ثم تكرر في الثمانينات عندما قررت واشنطن دعم المجاهدين الأفغان ضد السوفيات. لكن في التسعينات سقطت أهمية باكستان في الاستراتيجية الأميركية، ثم جاءت عمليات «11 سبتمبر»، فكانت الحرب على الإرهاب بمثابة «جائزة» للاقتصاد الباكستاني، وقال بوركي: «ان هناك علاقة مباشرة ما بين الأداء الاقتصادي الباكستاني والسياسة الخارجية».

ضمن هذه المعادلة جاءت زيارة نائب الرئيس الأميركي ديك تشيني إلى باكستان، فواشنطن تريد من مشرف الوقوف الى جانبها اذا شنت الحرب على إيران، والمطلوب من باكستان في هذه الحالة أن تلتزم بألا تشن طالبان معارك في أفغانستان في الوقت التي تركز فيه أميركا على إيران.

من ناحيته يعرف مشرف انه سمح للاستخبارات الأميركية بأن تقوم انطلاقاً من بلوشستان/ باكستان بعمليات سرية ضد إيران. ثم إن أميركا في حاجة إلى باكستان في العالم الإسلامي، وقد عقد وزراء خارجية «منظمة المؤتمر الإسلامي» اجتماعاً في إسلام آباد الأسبوع الماضي، استثنيت منه إيران. وفي هذه المرحلة الصعبة قد يكون لمشرف دور رئيسي إذا ما تهدد أمن الخليج، كما ان أميركا إذا ما اضطرت إلى ممارسة ضغوط أكثر لزعزعة استقرار إيران، فإن دور باكستان يكسب أهمية مضاعفة لمجاورتها إيران.

لا تخفى هذه الاتصالات والمحاولات على إيران، فهي بدورها بدأت في تحريك مجموعاتها داخل أفغانستان، اذ لا يزال لها نفوذ واسع في صفوف المجاهدين هناك. وكان التجمع الكبير اللافت للانتباه الذي عُقد الاثنين قبل الماضي في كابول، بمثابة إنذار إيراني لمن يهمه الأمر. وإبرز قادة المجاهدين الذين شاركوا في ذلك التجمع كانوا في السابق من الذين عملوا واعتمدوا على إيران لسنوات طويلة، وعلى رأسهم زعيم الهزارا الشيعة كريم خليلي، و«قيصر» غرب أفغانستان إسماعيل خان، ووزير الدفاع السابق قاسم فهيم (من جماعة ـ أسد بيشاور ـ أحمد شاه مسعود) والرئيس الأفغاني السابق برهان الدين رباني. وهتف الجميع: «هذه أمة المجاهدين، نريد حكم الشريعة، وحكومة من المجاهدين».

ان قبعة «طالبان» تناسب كل الفرق الجهادية في أفغانستان، هذا ما أرادت إيران إيصاله إلى الأميركيين. لكن هذا التجمع واقتراب الربيع ـ موعد الهجوم الكبير ـ ورائحة حرب محتملة، كلها دفعت وستدفع دولاً محلية ومعنية الى الدفاع عن مصالحها انطلاقاً مما يدور في أفغانستان، إذ تبرز هناك مشكلة جيو ـ سياسية، لأن الوجود الأميركي ـ البريطاني زائد قوات من الحلف الأطلسي يهدد بحرب باردة جديدة مع روسيا ولا يريح الصين، وكما ناورت إيران عبر تجمع المجاهدين المحسوبين عليها يرغب حامد كرزاي الرئيس الأفغاني ممارسة حقه هو الآخر بالمناورة للمحافظة على حكمه، بعدما شعر أن باكستان ـ حليفته اللدود ـ تتمتع بمجال مناورة اكبر في ظل الحاجة الأميركية إليها، إذ أنها تريد أن تضرب عصفورين بحجر واحد، حكمه والنفوذ الهندي.

لقد عبر كرزاي عن استعداده لإجراء محادثات مع «المعتدلين» من طالبان من اجل السلام في أفغانستان، وقال لمجلة «ديرشبيغل» الالمانية في عددها الأخير، انه مستعد لمصالحة الملا عمر (زعيم طالبان) وقلب الدين حكمتيار (زعيم حزبي اسلامي المتطرف)، من أجل استقرار بلاده. وأضاف: «أن الشعب الأفغاني هو من يقرر بصدد الجرائم التي ارتكبت بحقه».

الذي يقوم بالوساطة ما بين كرزاي، وبعض قادة طالبان والمجاهدين هو الملا وكيل أحمد متوكل وزير خارجية طالبان السابق. متوكل اجتمع لمدة خمس ساعات الأسبوع الماضي بكرزاي، واقترح أن تشمل المحادثات كل الأطراف، وان تجري على أعلى المستويات لمنع انتشار الحرب في كل أفغانستان.

الأميركيون يرفضون بشكل قاطع فتح أي حوار مع طالبان، كما أن مجلس شورى طالبان الذي يتخذ من كويتا في باكستان مقراً ومنطلقاً لعملياته، يرفض أي تسوية مع «الحكومة الدمية»، خصوصاً بعدما تردد أنهم سيطروا على مقاطعة «نوزاد» في هيلماند، وطردوا الإدارة التي عينتها كابول. تحريك القتال هناك يعني أن اتفاقا وقف إطلاق النار الذي كانت طالبان توصلت إليه مع قوات الأطلسي في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي انتهى العمل به. وكان مسؤولو الأطلسي وافقوا عليه على أساس انه فرصة توفر لهم بسط نفوذهم بهدوء وتقوية سيطرة حكومة كابول. ولإيقاف هجمات طالبان، يرغب الحلف الأطلسي في إيصال الحرب الى باكستان وبالذات إلى «كويتا» مركز قيادة وإمدادات طالبان. لكن هناك مشكلة تمنعهم من تحقيق هذه الخطة، اذ ذكرت مصادر موثوقة أن المؤسسة الباكستانية توصلت الى اتفاق مع احد قادة طالبان الملا دادوالله ليكون رجلها القوي من اجل تمديد النفوذ الباكستاني في جنوب غرب باكستان، وتقوية طالبان في استعداداتهم ضد حكومة كابول.

ان الاتفاق مع الملا دادوالله يخدم مصالح باكستان باستعادة موطئ قدم قوي لها في أفغانستان، بعدما مالت حكومة كرزاي اكثر صوب الهند، كما انه يؤثر على علاقة طالبان بتنظيم القاعدة.

لقد رأت طالبان انه بعد خمس سنوات من العمل مع القاعدة، لم يعد من مجال للوصول إلى أبعد مما وصلوا إليه، ولأن القاعدة لا ترغب في اي تعاون مع حكومة باكستان، فقد فضل دادوالله السير في الاتفاق بمفرده، وحسب المصادر الموثوقة، يشعر قادة طالبان، خصوصاً بعد هجوم الربيع الماضي إنهم في حاجة إلى دعم دولة لتحقيق «النصر النهائي» اذ، رغم انهم تعلموا من أسلوب الجهاديين في العراق وقاموا بعمليات إرهابية كثيرة، لم يستطيعوا عبور قندهار او تطويق كابول. ورغم نجاحهم في تجنيد أعداد إضافية إلا انه، من دون دولة تحميهم بدعمها وتسليحها وامدادهم بالصواريخ، فإن طائرات القوات الأميركية قد تلحق بهم أفدح الخسائر. باكستان شعرت بأن هذا الوضع اكثر من مناسب لإعادة إحياء اتصالاتها وعلاقاتها مع طالبان، وهي مستعدة لإعطاء هجوم الربيع دعماً محسوباً، والدعم سيكون قوياً جداً بحيث تكون هجماتهم الربيعية قوية الى درجة يضطر معها قادة قوات الحلف الأطلسي الموجودين في أفغانستان، إلى الحديث عن السلام والسعي اليه. في تلك الحالة، تتقدم باكستان تحت صفة «صانعة السلام» لانقاذ حلفائها الغربيين. وسيكون، حسب الخطة لباكستان طلبات في المقابل من أبرزها، إقامة حكومة موالية لها في كابول، إذ تشعر إسلام أباد بأنها استثمرت الكثير في أفغانستان بعد الاحتلال السوفياتي عام 1979، لكن بعد التحرير من طالبان، دخلت الهند على الخط و«غرزت» نفوذها هناك.

اختارت باكستان الملا دادوالله ليكون رجلها الطالباني في هذه المرحلة، لإدراكها بأن الملا عمر، وقلب الدين حكمتيار رفضا في السابق ان يكونا رجليهما المخلصين تماماً، من هنا، تبرز محاولات حامد كرزاي استمالة الاثنين إلى صفه.

الملا دادوالله حارب الاحتلال السوفياتي وفقد إحدى رجليه، ثم قاتل التحالف الشمالي عندما سيطر طالبان الملا عمر على كابول عام 1996، وهذا ما دفع إسلام أباد إلى التركيز عليه أكثر. والعام الماضي كان مبعوث الملا عمر إلى مقاطعتي وزيرستان، حيث توصل إلى اتفاق مع القوات الباكستانية التي كانت فقدت 800 جندي في عملياتها ضد طالبان باكستان وضد مقاتلي القاعدة. الاتفاق سمح للجيش الباكستاني بـ«انسحاب مشرف» من منطقة القبائل الحدودية التي تتمتع بشبه استقلال، وجرى الحديث يومها عن اتفاق الرئيس مشرف مع طالبان باكستان بحيث يترك لهم حرية الحركة، شرط ألا يشنوا هجوماً على نظامه. ومنذ ذلك الوقت، كلما حصل خرق لهذا الاتفاق تدخل الملا دادوالله لتسوية الأمور وضبطها.

الدوائر الاستراتيجية في باكستان مقتنعة بأن الملا دادوالله سيحقق «العجائب» في هجوم الربيع «المنتظر» مما يمنح طالبان تفوقاً على حكومة كابول وعلى حلفائها الأطلسيين، وتصل قناعتهم بمهارات دادوالله السياسية ـ بعد تجربتهم السابقة معه ـ بأنه سيفاوض بعد حملة الربيع، وينجح بأن يشرك الأفغان الموالين لباكستان في الحكم في كابول.

هل يعيد التاريخ نفسه في أفغانستان، وتعود كل دولة لتدعم «أمراء حربها الأفغان». الذين يدعمون طالبان من الشعب الأفغاني، يقولون إنهم أفضل من طبقة الفساد الحاكمة في كابول. إذا أعاد التاريخ نفسه، وانفصلت طالبان عن القاعدة، خصوصاً ان هناك مشاكل بين الطرفين بسبب خلافات إيديولوجية، وانه مجرد وقت قبل أن ينفصلا نهائياً، فإن النصر سيكون لباكستان، لأنه مع الحرب الأخرى المتوقعة، فإن اعتماد واشنطن على إسلام آباد سيتضاعف.

هل نقول إن كل ما يجري هو من سخريات القدر، أو انه من غباء سياسيي ومخططي هذا القرن؟