«حلبجة» عنوان القضية الكردية.. وليست مجرد مذبحة مخجلة!

TT

المرافعة التي تقدم بها طارق عزيز، أمام المحكمة التي تحاكمه في بغداد، تثير الإعجاب لكنها لم تكن مقنعة ويقيناً لو أن الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين تحلى بهدوء الأعصاب وابتعد عن الأداء الاستعراضي ولم يتناوب هو وأخوه غير الشقيق برزان التكريتي على الصراخ والزعيق وتوجيه الشتائم البذيئة للقاضي ومحكمته وللمدعي العام، لكان ترك في أذهان الناس انطباعا غير انطباع «البلطجة» الذي بقي يرافقه حتى لحظة شنقه صبيحة عيد الأضحى الماضي.

لم يكن طارق عزيز مقنعاً، مع أن مرافعته أثارت إعجاب كثيرين، ذلك لأنه لو كان صحيحاً ان الغاز الذي فتك بأهل «حلبجة» المساكين إيراني لكان على النظام السابق، الذي كان هذا الرجل أحد أركانه الأساسيين، ألا يسكت عن تلك الجريمة البشعة التي لم يقم بمثلها إلا النازيون في ألمانيا وعصابة بول بوت في كمبوديا، حيث أن الضحايا الذين أُزهقت أرواحهم في ذلك اليوم الأسود هم مواطنون عراقيون من المفترض أن هذا النظام مسؤول عنهم.

إن هذا ليس دفاعاً عن نظام «ملالي» إيران ولا تبرئة له فهذا النظام قام بدوره بأفعال مماثلة ضد الأكراد الإيرانيين وفي هذا المجال فإن كل من في رأسه شيء من الذاكرة، لا بد وأن يتذكر تلك المذابح التي نفذتها ثورة الإمام الخميني بعد انتصارها مباشرة ضد مدينة «كرمنشاه» الكردية، وضد العديد من البلدات والقرى في تلك المنطقة وكيف كان يجري إعدام أهل هذه المدينة وغيرها، بتعليقهم على أعمدة الكهرباء والهواتف ويُتركون معلقين في الهواء لأيام عدة، لإثارة الرعب في صدر كل من تراوده نفسه لرفض توجهات هذه الثورة التي كانت لا تزال وقتها ثورة فتية.

ولذلك وحتى لو أن الإيرانيين، في عهد هذه الثورة «المجيدة »!، بطشوا بالقوميين الأكراد وارتكبوا مجازر ضد كل من طالب بحقوق قومية ولو بالحد الأدنى فإن هذا لا يبرِّئ النظام العراقي السابق من ارتكاب جريمة «حلبجة» وجرائم «الأنفال». فقيام أي جهة باضطهاد جزء من هذا الشعب الذي بقي يتعرض للاضطهاد في كل أجزاء وطنه القومي لا يعني أنه بات من حق أي جهة أخرى أن ترتكب ضد أكراد العراق أو تركيا مثل ما ارتكب ضد إخوتهم في إيران بعد انتصار الثورة الخمينية وقبل ذلك.

بعد أيام من اختراق أنباء مذبحة «حلبجة» للستار الحديدي الذي كان نظام صدام حسين يرتكب جرائمه، ضد الأكراد وضد العرب وضد البعثيين وضد الشيعة والسنة على حدٍ سواء، أقيم معرض صور «فوتوغرافية» في إحدى قاعات جامعة «سَواسْ» اللندنية حيث كان هناك تجمع معظمه من العرب للاستماع الى محاضرة ألقاها رئيس بلدية الناصرة العربية السابق المرحوم توفيق زياد، تحدث فيها عن بطولات الانتفاضة الفلسطينية الأولى التي اشتعلت في الضفة الغربية وغزة في نهايات عام 1987.

كانت الصور التي عُلِّقت على جدران القاعة التي ألقى فيها توفيق زياد محاضرته مرعبة ومخيفة فالعشرات من الأمهات والآباء الذين جمَّدتهم الغازات والمواد الكيماوية تنتشر أجسادهم في شوارع هذه البلدة المنكوبة وهم يحتضنون أطفالهم ويلقون بأنفسهم فوقهم حماية لهم من هذه الغازات والمواد الكيماوية التي قال طارق عزيز، في مرافعته التي قد تثير الإعجاب لكنها غير مقنعة، أن العراق لا يمتلكها وأن إيران وحدها هي التي كانت تمتلك منها كميات كبيرة.

لكن ومع ذلك ورغم أن مشاهدة تلك الصور البشعة والمرعبة والمخيفة، التي قُدِّر عددها بنحو خمسين صورة وأكثر، تهدُّ شامخات الجبال إلا أن بعض الذين مروا عليها مروراً عابراً، والذين كانوا يحرصون على إظهار إعجابهم بصدام حسين ونظامه، تمتموا بكلام خافت أشار بعض الذين التقطوا بعضه الى أنه كان تعبيراً عن الرضا على ما حل بهذه البلدة الكردية المنكوبة.

وهنا فإن جوهر المشكلة ليس أن نظاماً مستبداً لم يتورع عن تجميد أجساد بعض أبناء شعبه، وبينهم العديد من الأطفال والنساء الأبرياء، بالغازات السامة الصفراء وبالمواد الكيماوية الحارقة... إن جوهر المشكلة هو أن بعض العرب وبعض الإيرانيين أيضاً لا زالوا لم يستوعبوا مسألة أن لهذا الشعب، الذي يقع وطنه القومي المجزأ في قلب هذه المنطقة، الحق مثله مثل كل شعوب الأرض في الاستقلال والسيادة وإقامة دولته الوطنية المتعددة إن لم تكن هناك إمكانية في الظرف الراهن لإقامة دولته القومية الواحدة.

حتى الآن فإن هناك من لم يستوعب أن يصبح جلال الطالباني (القومي الكردي) رئيساً لدولة عربية هي العراق. والمشكلة أن هؤلاء الذين يرفضون أن يصبح هذا المواطن العراقي رئيساً لدولة من المفترض انها دولته يرفضون أيضاً أي حقوق خاصة لأكراد العراق، ويرفضون أن يتمتع هذا الشعب بحق تقرير المصير مثله مثل شعوب هذه المنطقة الأخرى.

وحتى الآن فإن هناك من لا يزال يصر، وعلى الطريقة التركية، على أن أكراد العراق هم في حقيقة الأمر عرب وجزء لا يتجزأ من الأمة العربية. والمشكلة أيضاً ان هؤلاء يرفضون في الوقت ذاته أن يصبح جلال الطالباني، الذي من المفترض أنه مواطن عراقي ويحق له ما يحق لغيره من العراقيين، رئيساً لدولة هي دولته.

وبالطبع فإن هذا الموقف لا يشمل العرب كلهم لا الآن ولا في السابق في ذروة تفجر المسألة الكردية ففي عام 1963، وكان حزب البعث يومها يحكم في العراق وسوريا في الوقت ذاته، فعندما كان بعض العرب يلهبون أكفهم تصفيقاً للواء فهد الشاعر، الذي قاد وحدات عسكرية سورية وتوجه بها نحو كردستان العراق لمشاركة القوات العراقية في إخماد الثورة الكردية الملتهبة، كان هناك قادة عرب ضد كل هذا، وكان من بينهم المغفور له الملك حسين بن طلال ملك المملكة الأردنية الهاشمية، والمرحوم جمال عبد الناصر رئيس الجمهورية العربية المتحدة، التي في ذلك العام كانت تقف على رجْلٍ واحدة بعد ان اختطف منها الانفصال الإقليم الشمالي أي إقليم سوريا.

ربما يتبادر إلى الأذهان هنا أن ذلك الدعم الأردني المبكر، الذي بقي مستمراً حتى الآن وإن بصورة غير معلنة، قد جاء على خلفية إطاحة النظام الملكي في العراق عام 1958 وارتكاب مذابح مروعة ضد حتى أطفال العائلة الهاشمية التي كانت حاكمة هناك وأن ذلك الدعم من قبل جمال عبد الناصر قد جاء على خلفية تلك الحركة الانفصالية التي بددت حلم الرئيس المصري الأسبق، وأخرجت الإقليم الشمالي ـ السوري من الجمهورية العربية المتحدة.

والحقيقة أن في هذا شيئاً من الصحة ولا يمكن إنكاره والحقيقة أن الملك حسين والرئيس جمال عبد الناصر، رحمهما الله، قد التقيا في تلك الفترة المبكرة عند نقطة معاداة حكم حزب البعث في العراق وفي سوريا، رغم كل ما كان بينهما من خلافات وعلى أساس القاعدة القائلة: «عدوُّ عدوي صديقي». لكن وبصورة عامة فإن دعم هذين الزعيمين للأكراد وحقوقهم يتعدى في جوانب كثيرة منه هذه النقطة الى نقطة أخرى في غاية الأهمية هي القناعة بأن لهذا الشعب، الذي أصيب بأكثر مما أصاب العرب نتيجة اتفاقية «سايكس – بيكو» المشؤومة، الحق كله في تقرير مصيره والحق كله حتى في إقامة دولته المستقلة.

إن هذا هو جوهر المشكلة ولذلك فإن مرافعة طارق عزيز الآنفة الذكر بدت وكأنها لحظة قد هربت من مرحلة بدايات عقد ستينات القرن الماضي وجاءت الى هذه المرحلة التي لا واقعها واقع تلك المرحلة، ولا وضع الأكراد فيها كوضعهم عندما كانت قوات فهد الشاعر تزحف على قراهم من الغرب، وقوات رفاقه في حزب البعث تزحف على هذه القرى من الجنوب.

لقد تغيرت الوقائع والمعطيات وهذا يقتضي أن تتغير بعض القناعات والذهنيات العربية التي لا تزال تتمترس في خنادق صدام حسين. فالأكراد لم يعودوا كما كانوا عليه، ولذلك فإن من مصلحة الأمة العربية ألاَّ تقف في وجه هذا الشعب الشقيق من جديد مرة أخرى، وتحول دون أن ينال حقوقه الوطنية والقومية... إنه على العرب ان يحتضنوا هذا الشعب الشقيق، وأن يحلوا أية إشكالات بينهم وبينه بالوسائل السلمية. وأنه عليهم أيضاً مؤازرة هذه الأمة الشقيقة، كي تكون سنداً لأمتهم وليس جيباً تابعاً لإسرائيل كما يدَّعي البعض ويتمنى هذا البعض الآخر.