قراءة نفسية لبوش الجديد

TT

هل نستطيع أن نفصل القرار السياسي عما يدور في النفس من خواطر وتهويم؟ نادراً ما نعطي أهمية للمكنونات النفسية في مجتمعنا العربي وتأثيرها في صنع القرار. عادة نسقط على الخارج ما يدور في الداخل، فيتهيأ لنا ان قراراتنا تأتي من التفاعلات الاجتماعية ـ وهذا ما يضللنا ـ لأنها في الواقع تكون نابعة من النزوات المكبوتة والأزمات اللاواعية التي لا طائل لنا في التأثير عليها.

بوش الابن: بعد تجربة دامية في العراق، نراه يتخذ قراراً بمتابعة الحرب بل بتسعيرها، لعله يقلب الاوضاع ويصحح ما أخفق به حتى الآن. السؤال هنا: لماذا هذا الاصرار على الحرب وتصعيدها؟ ولماذا لا يستطيع الاعتراف بالفشل؟

هنالك الظاهر والباطن في القرارات السياسية الحاسمة؛ فالظاهر بالنسبة الى بوش قد يقتصر على الشعارات الديمقراطية وتعميمها في الشرق الاوسط الجديد. هذه الدعوة التبشيرية تنطلق من معتقدات دينية وايديولوجية تجمع بين العديد من المفكرين الاميركيين وبين قاعدة شعبية تؤمن بالرسالة الملقاة على عاتقها بعد اكتشاف أرض الميعاد الجديدة التي وهبها الله لهم. اذ انه من دون ربط الارض بالله تصبح اميركا دولة غير شرعية في نظر الأحكام الوضعية.

من هذا المنطلق حصل اللقاء التاريخي بين بنية بوش الابن النفسية وبين الدعوة التبشيرية المتوارثة في اللاوعي الاجتماعي الاميركي منذ احتلال اميركا وإبادة الشعوب القائمة على ارضها منذ فجر التاريخ.

فحملة بوش على العراق، والعودة الآن الى اقامة شرق أوسط جديد تتعدى حدود الاهداف الاستراتيجية والاقتصادية المعلن عنها؛ ففي الخطاب الديني الباطني نلبي في آن واحد الدعوات العقائدية ـ وليست اسرائيل إلا جزء منها ـ والنزعات التبشيرية المرتبطة بالإيمان العقائدي الذي يملي على بوش أن يكون الموكل إلهياً لتحقيق هذا الحلم. وهذا ما يخوله أن يكون المؤشر Catalyseur الذي يجمع هذا المنحى مع كل التيارات السياسية والاجتماعية والدينية، لكي يحقق طموحات شعب له أحقية في الأرض، ويثبت في آن واحد أهليته في التحكم بالعالم لاسيما ان الله قد اختاره لهذه المهمة بعد ان وفر له قوة لم يشهد التاريخ مثيلها.

والقوة وجدت لكي تستعمل، وإلا فلن تعود لها قيمة. ولكن السؤال ان هذه القوة اذا استعملت، ستؤدي الى ابادة شعوب بأكملها ـ اذا ما قيست بقدرتها النووية ـ وعلى تحقيق الدمار الشامل. فهل بإمكان ضمير الشعب الاميركي ان يتحمل جريمة إبادة الملايين من البشر؟

امام جريمة فردية ولأسباب شخصية، قد يصاب الانسان بتعذيب الضمير، ويصبح خارج إطار البشرية، اي يطرد من حقله الانساني كما لو كان قد قتل الناس جميعاً. اما عند قتل الآلاف بل ملايين البشر من اجل إحياء العقيدة، فهو عندها يصبح في حل من اي شعور بالذنب، لأن هذا الشعور باللاذنب يتكفل تبرير ذلك، كونه خارج الزمان والمكان. والحروب الدينية التي شهدها التاريخ كافية لأن تؤكد هذا الاحتمال، سواء في بداية المسيحية والإسلام وما تبعها من حروب صليبية ومن حروب مذهبية دينية دمرت اوروبا في القرن السادس عشر والسابع عشر. وإجمالا فالمعتقد الديني بحاجة الى التضحية البشرية، لأنه كلما كان القربان ذا اهمية نفسية، كلما تمكن الانسان من إرضاء ربه. وعلى سبيل المثال، عندما حاصرت روما مدينة قرطاجة (وشعبها كان من سلالة الفينيقيين) لم يجد السكان بداً من التضحية على مذبح الاله ملكارت بثلاثين ولداً من نخبة الطبقة الحاكمة، لكي يرضوه ويبعدوا غضبه عنهم. وعبر كل الأديان الماقبل السماوية نجد دائماً للتضحية البشرية مكاناً في طقوس الديانات فقط لإرضاء الآلهة وإبعاد غضبها وانتقامها. ولكن منذ ظهور الديانات السماوية، فدّي النبي ابراهيم ابنه بكبش، بإذن الهي بعد ان أعلن طاعته. وهكذا توقفت التضحية البشرية لتحل محلها التضحية الحيوانية كفداء يفتدي به المرء ويشفي به غليل نوازعه العدوانية طلباً لحماية أولاده.

والسؤال هنا، هل ما زالت التضحية البشرية في الفكر الانساني حاضرة بعد مرور اكثر من خمسة آلاف سنة على هذا التحريم المؤسس؟

الواقع يظهر لنا ان الدعوة الى التضحية البشرية اذا ما أُبعدت عن وعي الجماعة الانسانية فانها تبقى فعالة في الموروث اللاواعي عند الاجيال. وقد تكفلت الحروب الدينية طوال التاريخ لكي تقوم بهذه المهمة وتؤدي القربان البشري بأساليب مختلفة تحت حجة الحفاظ على العقيدة، مهما كان نوعها؛ فالحروب، اذن، اضحت بمثابة المذبح العالمي الالهي الذي تستباح به إسالة دماء البشر من دون حَرَج، مدعومة بتبريرات مختلفة اقتصادية سياسية دينية مضللة.

لذلك ومن هذا المنطلق، فإننا اذا عدنا الى بوش الابن نراه اليوم أمام ثلاثة احتمالات: 1 – اما ان يتراجع ويقر بالفشل، وهنا لا تسلم العقيدة. 2 – واما ان يبقى على الحالة الراهنة مع استنزاف مستمر. 3 – واما ان يقدم على عمل عسكري بعد إضفاء الحق باستخدام القوة النووية الالهية في سبيل تحقيق النصر الالهي.

وما اخشاه هو ان بوش الجديد (قائد المحافظين الجدد) سيتخذ الاحتمال الثالث بعد ان يكتمل عنده السيناريو اللازم الذي يضع من خلاله الاميركيين أمام أمر واقع جديد لا يمكن تفاديه. وما يدعم هذا الاتجاه هو معرفتنا بتركيبة بوش الاوديبية.

فنحن نعرف اليوم ان بوش كان يعاني من عقدة ابيه. ورغم الحب الظاهر والطاعة له، إلاَّ انه كان يضمر له العداء، وينتظر المناسبة التي تمكنه من تحقيق النصر عليه. الارهاب إذا شخصناه، يتجسد بالشكل المعادي لما هو الوجه الآخر المعادي لصورة الأب المزدوجة (وهنا ضرورة محور الشر وفصله عن محور الخير). وأتت ساحة العراق لكي تشكل المسرح الاغريقي حتى يتحقق هذا التهويم في كل أبعاده.

في انتصاره الاول نراه في قمة النشوة النرجسية: حيث تحقق له ما لم يتحقق لوالده، واجتاز الخطوط الحمر التي توقّف عندها الاب ووصل الى بغداد، وتميز عن التتار الذين أنهوا الخلافة العربية لعائلة قريش. وهذا بالتحديد ما دعاه الى اعتبار هذا النصر الهياً بامتياز وليس اجتياحاً. ان العقيدة وجدت ما يدعمها عبر العديد من الضحايا الذين دخلوا في خانة القربان على مذبح آلهة يعبدها. ولذا رأيناه يطلب من الجميع الطاعة والإذعان لها لأنها الحقيقة وقد أثبتت وجودها. وردة الفعل لم تنتظر كثيراً، فقد صنّف المسلمون الحرب على العراق بأنها بمثابة حرب صليبية جديدة تستدعي كل من له القدرة للاستشهاد على أرضها، وأصبح العراق محجة لكل المستشهدين من أقطار المعمورة.

والآن بعد ان تحقق لبوش قتل صدّام حسين، تكون قد تمت الحفلة الأوديبية بكل مشاهدها. فصدّام حسين ـ بغض النظر عن الجرائم التي ارتكبها والتي تستحق المحاكمة ـ إلا انه في نظر بوش كان يشكل دائماً في تهويمه الوجه الآخر العدائي للأب الذي يريد قتله والتخلص منه. وكان صدّام بمثابة النموذج المنتظر الذي يحل عقدة ازدواجية المشاعر المتضادة تجاه الأب. والعراقيون ـ بدون ان يملكوا القرار النهائي في ذلك ـ نفّذوا حكم الاعدام بصدّام حسين بدلاً عن بوش. ولو كان بوش لا يريد حقاً تنفيذ الاعدام بصدّام، لكان رفض تسليمه او كان على الأقل سلّمه لمحاكمة دولية.

اذن هذه النزعة العدائية القتّالة التي كانت تتحكم بتهويم بوش وجدت امكانية اشباعها عن طريق الآخرين لكي يحافظ على مكانته أمام المجتمع الدولي.

هل نستطيع القول أن بوش قد حل عقدته بالتخلص من الوجه العدائي للأب؟

الجواب يأتيه من الواقع: إذا نجح على الصعيد النفسي، فإنه بالمقابل قد خسر معركته على المسرح الواقعي، سواء أكان ذلك في العراق او حتى في المجتمع الأميركي. فالجواب أتى سريعاً من الانتخابات لكي تدينه وتعاقبه وتُسقطه من منصبه بعد ان كان يتمتع بحوالي 90% من اصوات الشعب الأميركي الذي يؤيد سياسته الخارجية.

في الحقيقة نراه قد أصيب بصدمة نفسية وبجرح نرجسي لا يمكن تصور كيفية الشفاء منه. ولكن هنالك عدة احتمالات:

1 ـ نراه قد رجع الى والده، كأنه يطلب منه الغفران والمسامحة. وهذا الاخير قد لبى نداءه، واستعان بكبار مستشاريه السابقين، كي يجدوا لابنه الضال المخرج. فكان ما سُمي بتقرير هاملتون ـ بيكر، وكان توكيل «غيتز» بديلاً عن رامسفيلد الذي كان يغرر به ويعزز نرجسيته. ولكن هل التزم بوش الابن بهذه الوصية الابوية وعمل بها؟ الى الآن التقرير الظاهر لبرنامجه الجديد لا يدعو الى هذا التفاؤل.

2 – لكن الاذعان مجدداً لسلطة الأب قد يخلق له احراجاً لم يكن في الحسبان، ويتطلب منه تضحيات لا يعرف اذا كان بإمكانه تحمّلها. ثم ان عداء بوش لوالده جعله يشعر بالدونية وعدم قدرته على مجابهة الأب، مما أشعره بالذنب والخوف من المتخيل العدائي تجاهه. وعلى الصعيد العيادي تُرجم ذلك بإدمانه على الكحول، ولم يخرج من المحنة إلا بمساعدة زوجته والقسيس غراهام وصديقه وزير التجارة فرانكلين، وبالتدخل الالهي عبر هذين الوسيطين، ومن ثم التدخل الالهي المباشر لتوجيهه الى اتخاذ القرارات الصعبة. فاللجوء الى الله كان بمثابة الأب المثالي البديل، حيث يجد بوش من خلال اختياره هذا اكتفاء نرجسياً لا يضاهى ـ لأنه خير ضد بقية البشر ـ وهو بذلك يتخطى الأب ويتجاوزه دون ان يكون هنالك مبرر للشعور بالذنب. وبهذا يكون الله قد ميزه عن الأب واختاره مكانه لكي يقضي على قوى الشر. ولكن.. أمام هذا السد الواقعي، أي الإخفاق، ما عليه إلا ان يقول إن الله قد تخلى عنه. وسلطة الأب عادت كما كانت، ودونيته أصبحت تدعوه للعودة الى الشعور بالذنب والإدمان مجدداً. وهذا ما يجب ان يرفضه ولا يرضى به ابداً.

3 – لا يزال أمامه مخرج أخير: بما أن الرب قد أعطاه قوة لا تضاهى، فلماذا اذاً يرفضها ولا يحسن استعمالها؟ بل الخطيئة أمام ربه هو انه لم يستعملها أصلا.

لذلك ـ وهنا يكمن الخطر الأدهم ـ نراه يخطط تحت تأثير هذه الدواعي النفسية الى اللجوء الى السلاح النووي كمخرج نهائي!! وبهذا يكون قد قام بواجبه على أتم وجه، وليكن ذلك، وعلى الله ان يتكفل بالنتائج والتداعيات والدمار والضحايا وسواه.

وعندئذ يصبح الشرق الاوسط مسرح حروب لم يعرفها التاريخ سابقاً. تعم الفوضى كل أرجائه ويتداخل الديني والعلماني والمذهبي والطائفي والسياسي في صراع نعرف بدايته ولا نقرر نهايته.

* رئيس المركز العربي للأبحاث النفسية والتحليلية