التواطؤ على نسف الخطوط الحمراء

TT

الحكم على شاب صغير في الثانية والعشرين من العمر، بأربع سنوات سجن لمجرد أنه كتب كلاماً لا يعجب البعض على مدونته، يبدو أمراً قاسياًً. ثورة المدون عبد الكريم نبيل، المعروف باسم كريم عامر، كطالب أزهري غاضب على مؤسسته، تشبه من حيث الشكل، غضبة طه حسين الذي دون كتابه الأشهر «الأيام» وجعل من جزئه الأول صفحات ثأرية حارقة، ضد نظام تعليمي أزهري، جربه واعتبر أن فيه جوراً وإجحافاً بحقه كإنسان. ومع أن طه حسين كان قد قُذف، في حياته وبعد مماته، بكل التهم التي لا يتمناها كاتب لنفسه، إلا انه لم يسجن، في النصف الأول من القرن الماضي كالمجرمين الخارجين على القانون، بسبب الكتاب.

شاب يسجن بسبب مدونة، ونوال السعداوي تفرّ بجلدها هرباً مع ابنتها، بعد جرجرتها أمام المحاكم بسبب أفكارها، وهالة سرحان تفضل أن تنفي نفسها ولو مؤقتاً في دبي أو لندن، تحاشياً للوقوف أمام القضاء بعد الحلقة المثيرة للجدل التي قدمتها، وادعت الضيفات أنهن كن مجرد ممثلات تقاضين أجراً، فيما الإخوان المسلمون لا تنقطع أخبار التضييق عليهم واعتقالهم وتعذيبهم، وهم ماضون في الدفاع عن رؤيتهم. هؤلاء جميعاً وكثيرون غيرهم على اختلاف مشاربهم، وتنوع قضاياهم، تجمعهم الفكرة والرغبة في اختراق ممنوعات، كل على طريقته. مشاغبون من أصناف متباينة ومتنافرة أحياناً، قد يتأتى عن تصادمهم لو حصل، انفجارات فكرية، وربما مجازر دموية لا يقدر مداها احد.

ما تفعله الحكومات هو فصل المشاغبين المتنامين، وكبح جماحهم، وتخويفهم وتركيعهم إن اقتضى الأمر، وجعل من يقع في أيديها درساً لأمثاله. تعلم السلطات حتماً، أن ما هو مكتوب على المدونات، تشيب له الرؤوس، وأن متابعة ومحاكمة كل هؤلاء المتمردين تحتاج تفرغاً وصبراً طويلين. فما كتبه كريم عامر عن رمضان والنفاق، بفظاظته ولغته المباشرة، جاء من ينافسه عليه ويزايد، وبلغة مبتذلة، في مدونات أخرى، وكأننا في سوق عكاظ إنترنتي، من صنف غير مسبوق بجلافته وسوقيته. وما تنشره بعض المواقع الإسلامية من دعوات ومخططات وتحريض وتكفير، لهو أشد هولاً مما تجرأ عليه الليبراليون في حق الساسة والسياسيين، والمخالفين لهم من مواطنيهم.

والسؤال الأهم الذي لا تطرحه السلطات العربية على نفسها، وهي عالقة بين ليبراليين يهاجمونها وإسلاميين يناصبونها عداء أشد وأقسى، ما مصير لعبة الكوابح، وهذا اللجم لكل جامح، من المحيط إلى المحيط. وماذا لو أفلتت الأمور، في غفلة من الشرطة والمحاكم؟ ألا نحول المنطقة برمتها إلى قنبلة موقوتة، ونحن نتجاهل تعاظم قوة وعناد التيارات المتعاكسة والمتباغضة، التي تتفق فقط على فساد السلطات الرسمية، ثم تختلف حد التناهش على كل ما عداه؟

تقدر المدونات في دولة عربية واحدة بـ400 إلى 500 مدونة، وقس على ذلك في الدول العربية الأخرى. وهي تختلف عن الكتب في أنها أصعب من أن تمنع، وأصلب من أن تقمع، ولبعض المدونين الصغار في السن من التصميم والحوافز والحجج، الحاضرة الناضرة، حين تسمعهم وتقرأهم، ما لا تستشعره عند الكتاب الورقيين، علماً بأن أصحاب الكتب ايضا، بدأوا يشنون حملاتهم التي تستهدف نسف الخطوط الحمراء، بكثافة فاقعة. فمجموع الكتب التي ظهرت محاولة ان تكسر «تابو» الجنس في السنة الأخيرة، وانضم إليها معروفون مثل علاء الأسواني، أو مجهولون مثل حزامة حبايب، تجعلنا نتساءل كم من الوقت سيستغرق كسر «التابوهَيْن» المتبقيين. فلم تتردد سلوى النعيمي في كتابها الأخير «برهان العسل»، في أن تستخدم المفردات والألفاظ المتعلقة بالجسد، بأسلوب فجّ، على طريقة المدونات وأكثر. لكنها وللمفارقة لا تدعي الانتماء للعصر، بقدر ما تحاول أن تقنع قارئها بأنها تلميذة نجيبة لحضارتها وأجدادها من الكتاب التراثيين الذين نبشتهم واكتشفت بعد قراءاتها الكثيرة في المؤلفات القديمة «أن العرب هم الأمة الوحيدة في العالم التي تعد الجنس نعمة، وتشكر الله على هذه المتعة».

وبصرف النظر عن المرجعيات التي يختارها كل لنفسه، ويتذرع بها ليكتب على الورق أو الإنترنت، ما يحلو له، وما يتفتق عنه ذهنه، وقد قرر أن الأوان قد حان، ليكسر الحواجز، ويهدم الموانع، فإن المحاولات حثيثة للتغيير. وإن كان الإسلاميون على مواقعهم، يشكلون تجمعات تكبر ككرة الثلج، وتذهب في التحريم، أحياناً، حدوداً تمنع الأوكسجين وتسد منافذ الحياة، فإن الليبراليين بدأوا في الفترة الأخيرة ما يشبه هجوماً مضاداً، أخذوا يتنافسون فيه على ما يمكن تسميته «الجرأة للجرأة» أو «الإباحية للإباحية». ولا تنتظر من هكذا كتابات أن تأخذك دائماً إلى عوالم تخرجك من مستنقعك إلى ما هو أرحب، وأقدر على توسيع أفق الرؤيا. بل يكفي البعض أن يبوح بألفاظ وتوصيفات، كانت حتى صدور كتابه من المطبعة، مجرد كلمات ميتة في قاموس، وعبارة سرية تهمس بها الألسن همساً وهدساً. وبين هذه الفئة وتلك يقف جمهور الحائرين، المنتظرين المصالحة التاريخية بدل الحروب الأهلية، والمصادمات التي يتبادل فيها المواطنون الاتهامات بالكفر والرجعية والخيانات على أنواعها. وهي مصالحة لا تستوي إلا بغطاء الدولة العادلة المنصفة، التي تحمي وتستوعب تشريعاتها المختلفين، كل المختلفين والمتنابذين بجنونهم وجنوحهم، جنباً إلى جنب، ومن دون ترهيب وتهديد، تحت سقف القانون والحرية. فثمة عبارة للجاحظ تقول: «لا خير لسمين لا يحتمل هزال أخيه، وصحيح لا يجبر كسر صاحبه».

[email protected]