تسوية المتعبين

TT

«هبّة» التفاؤل السائدة على الساحة اللبنانية منذ القمة السعودية ـ الإيرانية في الرياض، السبت الماضي، ما زالت حدودها العملية موقف اللبنانيين أنفسهم من تسوية يبدو أن تعب الفريقين المتخاصمين يفرضها أكثر من قناعاتهم.

وزير الخارجية السعودي، الأمير سعود الفيصل، كان واضحا في دعوته اللبنانيين «إلى أن يحسموا أمرهم وأن يقرروا بأنفسهم تغليب المصلحة الوطنية وجعلها فوق أي اعتبار من اجل حدوث تغيير ايجابي في الوضع اللبناني». والسفير السعودي لدى لبنان، عبد العزيز خوجة، كان، بدوره، صريحا في تذكيره من يعنيهم الأمر في لبنان «أن العوامل الخارجية التي كانت تعترض التوصل إلى حلول للأزمة اللبنانية قد أزيلت وسقطت ويبقى على اللبنانيين التفاهم على التفاصيل».

معروف ان اللبنانيين، بطبيعتهم «ملكيون أكثر من الملك». وإذا صح البناء، داخليا، على الأجواء الايجابية التي أشاعتها القمة السعودية – الإيرانية في الرياض فلا بد من الأخذ في الاعتبار أن «العقدة» المتبقية دون حل في الأزمة اللبنانية هي... العقدة اللبنانية.

بادئ ذي بدء، كان اللبنانيون يتمنون لو ان قادتهم توصلوا، بعد أيام قليلة من تفجر أزمتهم، إلى «تسوية الشجعان» التي دعا اليها البعض عوض أن يواجهوا اليوم «بتسوية المتعبين».

وإذا كان نادرا ما يعيد التاريخ نفسه، حتى في لبنان المعتاد على تكرار أزماته عقدا بعد عقد، وإن بتسميات مختلفة أحيانا وتعقيدات مضافة دوما، فقد تكون العبرة الأبرز لأزمتهم الراهنة تأكيدها للقيادات السياسية اللبنانية أن التبدل الديمغرافي في بلدهم، بصرف النظر عما يفرزه من أكثريات أو أقليات طائفية، يظل سقفه السياسي ذلك المفهوم التوافقي الفريد للديمقراطية اللبنانية.

ولأن «توافقية» اللبنانيين أبرز مظاهر ديمقراطيتهم منذ أرسى قواعدها الميثاق الوطني في الأربعينات وأكدها اتفاق الطائف في التسعينات، تبقى هذه التوافقية المحك النهائي لأي نظام يرتضيه اللبنانيون إطارا سياسيا لتعايشهم ولا نقول عيشهم المشترك. ما يجب أن يدركه اللبنانيون اليوم أنهم كلهم، في النهاية، «أقليات» في لبنان.

وبهذا المنطق فقط، منطق الأقليات، يساس لبنان، فهو وحده ضمانة تمايز بلدهم عن غيره من دول الجوار، وفي الوقت نفسه حصانته الخفية حيال الانزلاق نحو نظام أصولي أو شمولي أو دكتاتوري ينزع طابع «دولة الأقليات» عن وطنهم ويتيح لطائفة ما التفرد بقرار لبنان التعددي.

وإذا كان بعض أقطاب المعارضة اللبنانية يدرجون الأشهر الثلاثة التي انقضت على اعتصام محاربيهم المتواصل في وسط بيروت التجاري في خانة الجهد الضائع والوقت المهدور، فان التاريخ اللبناني قد يدرج «اعتصام الخيم» في إطار «السوابق» التي قدّمت توافقية اللبنانيين على ديمقراطيتهم: فلا الاستقواء بالخارج ضَمِنَ جنيَ مكاسب ملموسة لهذه الجهة أو تلك، ولا التلويح بالعنف توصل إلى شل المؤسسات الدستورية.

وفي هذا السياق، من الإنصاف الإشادة بذلك الحس العفوي الذي تميز به بعض القياديين ـ سواء أكانوا في صفوف المعارضة أم صفوف الموالاة ـ لمخاطر الإيغال في تجاوز خطوط التماس المذهبية في تصعيدهم للصراع السياسي الأمر الذي يسمح بالجزم بأن الفتنة السنية ـ الشيعية التي راهن البعض عليها ولت وسقطت.

من هذا المنظور، ومهما قيل عن قاعدة «اللاغالب واللامغلوب» في تسوية الصراعات اللبنانية، قد لا يختلف اثنان على أن الديمقراطية التوافقية اللبنانية هي المنتصر النهائي في أزمة لبنان الراهنة... كونها، بحد ذاتها، التجسيد الدستوري لروحية «اللاغالب واللامغلوب». وإذا كان المطلوب اليوم، في حال استمرار أجواء التفاؤل، ترجمة هذا التفاؤل باتفاق على مسلمات وطنية تقتضيها المرحلة الدقيقة التي يمر بها الشرق الأوسط، فقد ينفع التذكير بأن أي تسوية لبنانية لا تقوم ـ واستطرادا لا تدوم ـ من دون تنازلات متبادلة يظل سقفها لبنان التعددي وإطارها الدستور اللبناني ومؤسساته.