فرّق ما بينا ليه الزمان!

TT

ذكرتنا مؤخرا الزميلة سحر طه (المستقبل) بمرور ستة عقود على غياب أسمهان، التي يقول عنها الموسيقي سليم سحاب إنها صاحبة أجمل صوت في الشرق، أي قبل أم كلثوم وفيروز. والجمال ذوق ولا يخضع لقانون افعل التفضيل. وأجمل حيرة في الحياة هي أن يحار المرء بين تلك الحناجر الأكثر صفاء من الماس وأنبل وترا من رنة الذهب. ومن بين مطربات العصر الماسي، وقبل صعود هيفا إلى المسرح، كانت حياة أسمهان وموتها وصوتها، مأساة الفن المصري. ولدت فقيرة في بيت نبيل محافظ واعتلت المسرح في زمن كان الفقر الشديد وحده يبرر للأسر المحافظة الوقوف خلف المايكروفون، ولو بإزار اسود. وسرعان ما أصابت الغنى والشهرة. ودخل الغناء فرد آخر من الأسرة الأطرشية الدرزية، هو شقيقها فريد، الذي لحن لها بعض أجمل أغانيها. ولكن أجمل ما غنت (ها قد وقعنا في افعل التفضيل الممنوعة في الصحافة)، كان ما لحنه لها محمد القصبجي. وأنا أقول إن فضل القصبجي على اللحن العربي هو الأوفر، ولكن الشاعر الكبير جورج جرداق ينهرني قائلا: «جهلك برياض السنباطي يحملك على هذا الاعتقاد». وأفضل أن أظل جاهلا للسنباطي وسواه، لأن القصبجي كان يحوّل الحنجرة الماسية، مثل أسمهان وأم كلثوم، إلى منجم سعيد من الماس والعذوبة.

ولدت أسمهان في المأساة وماتت في المأساة. وظل موتها غامضا مثل حياتها. وقيل إنها اغتيلت غرقا. وقيل إن المخابرات الإنجليزية وراء العمل. وقيل أم كلثوم. وقيل التقاليد العائلية التي رفضت أن ترى أميرة من جبل الدروز على مسرح غنائي. ولو بإزار اسود.

ولا يهم كثيرا ماذا كان السبب، ما دامت النتيجة كانت الموت. وما بقي لنا هو ما غنت لا ما فعلت. وما غنت كان يشبه السحر. ومن سمعها تردد «وما فؤادي حديد ولا حجر... لك قلب فسله يا قيس، ينبئك بالخبر»، يعرف لماذا كان شوقي أمير الشعراء وعبد الوهاب أمير الغناء وأسمهان أميرة من غنى «فرَّق ما بينا ليه الزمان». ومن حظوظ أسمهان انه قدر لها أمير من أمراء الصحافة يكتب لها وعنها ويدّون سيرتها ويروي تنازعها النفسي وعطوبتها في الحياة وأنها لم تنس وهي ملتفة بمعاطف الفراء الأبيض ليالي البرد والجوع في أحياء القاهرة الفقيرة قبل أن تنتقل وتنقل معها العائلة إلى غاردن سيتي والضفة الميسورة من النيل الذي أحبته وغنت له (أنا بنت النيل)، ثم سقطت فيه دون أن تكمل الطريق لما قد يكون ذات يوم تنافسا على الذروة مع أم كلثوم. أو تنافس ذروتين.

لقد كتب لنا محمد التابعي مرارا سيرة صديقته الكبرى. وكتب حتى بعد وفاتها. وأخشى انه لم يكتب الكثير برغم كثرة ما كتب. لقد أراد أن يحمي صورة سيدة الحناجر. وكما حاول في حياتها أن يمنعها من التهور حاول بعد وفاتها أن يمنع الآخرين من التهور في الكتابة عنها. والأكثر لؤما في ما قرأت عن نهاية أسمهان ورد في مذكرات المفوض السامي في بيروت، الجنرال سبيرس، أن عقوقه يؤكد بأنها عملت للإنجليز.