إعاقة الفكر

TT

إن العقلانية، بوصفها إحدى طرائق التفكير، ليست بالضرورة انحرافاً فكرياً، كما يتصوره ـ أو يُصوره ـ بعضنا. كما أنها ليست المستند الوحيد، الذي نبني عليه طرحنا الفكري، كما يريده بعضنا الآخر.

إن العقلانية المطلوبة ـ في رؤيتنا الإسلامية ـ هي إيقاظ طاقة العقل، وشَحذ أدواته، لاستقبال التوجيهات التربوية، والسنن الكونية، والانفتاح على العالم بحضاراته المختلفة، والتواصل معها من دون ذوبان فيها أو تنازل لها، وذلك وفق نسق ذهني منتظم، على ضوء الكتاب والسنة. مع الحرص على إشاعة المفهوم الحضاري الإنساني للإسلام.

فكما أن الاقتصاد السليم، لا يتحقق له النجاح، إلا بوجود بنية تحتية مستقرة، تعزز دوره في بناء الدولة، وتضمن له الاستقرار. فكذلك الفكر السليم، لا يتحقق له النضج والتكامل، إلا ببنية تحتية، تمد جسوره إلى الآخرين، وتتواصل معهم، وتعيد ترتيب مخازن التفكير، وتبتكر طرقاً جديدة للإبداع، وترفع منارات للبحث العلمي، وتفتح أبواباً وطرقاً للحوار.. الخ.

ولكي تتحقق لنا تلك البنية لا بد أن نعالج إعاقات الفكر، فنستأصل المستديم والمستعصي ونعيد تأهيل ما يمكن تأهيله.

وإعاقة الفكر هي حالة ذهنية أو عاطفية تؤثر في أداء الوظائف الطبيعية للفرد، ومنها طرائق التفكير. وكلما كانت طرائق التفكير منضبطة بضابط عقلاني، كان صاحبها أكثر قبولاً باعتباره إنساناً سوياً.

و لو نظرنا إلى طرحنا الفكري، من حيث انضباط طرق التفكير، لرأينا صوراً من الإعاقات الفكرية، تجعل أصحابها عاجزين، عجزاً ذهنياً واضحاً، عن التكيف مع المتغيرات، فيُنتِجون خطاباً متطرفاً منكفئاً على ذاته، مفوتاً فرصاً كثيرة للتلاقح الحضاري، ومغلقين على أنفسهم باباً، من دون مساحة أرحب من النهوض والإبداع.

في مقابل ذلك نجد حالات أخرى من الإعاقات الفكرية، اتسمت بالانجذاب الدائم، والتبني المفرط لمفاهيم تتضمن التمرد على الدين، والقيم، والدولة.. كل ذلك باسم العقلانية.

فأصبح أولئك المعاقون ـ من كلا الطرفين ـ في حالة من الضبابية، وعدم وضوح الرؤية، فاختلت موازينهم العلمية وتشتت طاقاتهم الذهنية، التي لو وظفوها في قالب متزن لجلبت خيراً كثيراً.

إننا مطالبون ـ جميعاً ـ بإعادة النظر في أسلوب طرحنا للقضايا، وطريقة معالجتنا للأحداث، قبل أن ننهض بدورنا الرائد في نشر ثقافتنا، الداعية للتعايش والتبادل، وقبل أن نوصل إلى الآخر رسالتنا القائمة على العدل، والتسامح والسلام.

إن علينا أن نفعل الرؤى والمسلمات الإنسانية المشتركة بيننا وبين الآخر، من احترام لحقوق الإنسان، واحترام للنظام، واحترام للسلامة الاجتماعية..الخ، كما علينا أن نساهم في حل مشاكل البشرية انطلاقاً من مسؤوليتنا الإنسانية، التي حملناها الإسلام، مع تفريقنا بين السياسة والثقافة.

فيكون خطابنا الإسلامي، خطاباً عقلانياً مسؤولا، متجاوزا تبرير مشاكلنا الداخلية، إلى مناقشة المشاكل المشتركة للعالم، برؤيتنا الإسلامية، التي تجمع بين الأصالة والتحديث. كما علينا أن نتجاوز بأنفسنا ـ وبالآخرين معنا ـ ما تقوم به ثقافة من الثقافات، أو جماعة من الجماعات، من القهر السياسي، أو العسف الفكري، حتى تحافظ كل أمة على خصائصها وتتمسك بسماتها العامة، لأن مصادرة الخصائص الثقافية لأمة من الأمم، تحت شعار ما، أو تحت مسمىً براق، كالديمقراطية، أو الحرية، أو حقوق الإنسان، إنما هو نفي لتلك الأمة، واستنقاص للكرامة الإنسانية. وفي ظل العولمة، وتقنية الاتصالات، وانتشار السوق المفتوحة، فإن عملية التبادل الثقافي ستكون حتماً، وبطرق يصعب إدراكها، وعليه فإن نجاح مشروعنا الحضاري مناط بتسليمنا الكامل بالتأثر والتأثير بين الثقافات.. تسليماً وليس استسلاماً. فكما تؤثر الثقافات الأخرى علينا، فلنؤثر بثقافتنا عليها، بعيداً عن الإعاقتين بطرفيها: التبني المفرط، والرفض التام.. فالتبني المفرط يطمس ثقافتنا الأصيلة، والرفض التام يحرمنا من الإيجابيات التي لدى غيرنا.

وهذا وذاك، لا يحققان حضارة، ولا يبنيان مدنية، ولا يُعزان ديناً.

إن الرسالة الإسلامية، رسالة صالحة لكل زمان ومكان، بشرط أن ينقلها أبناؤها كما هي، وأن يحسنوا في توصيلها إلى غيرهم، في قالب عقلاني متزن، بعيداً عن الإعاقتين المُفرِطة و المُفرطة.

[email protected]