عمود من أعمدة السياسة العربية

TT

من اعظم من عرفتهم في لندن من عباقرة السياسة العربية كان المستر مكان. قد يستغرب القارئ ان يكون رجل خواجة انجليزي من عباقرة السياسة العربية ولكن عالم السياسة العربية عالم مليء بالأعاجيب حتى ليمكنني ترشيحه كمادة من مواد ملهاة الاطفال في ايام الاعياد والكرسمس. وعلى كل، فأبادر الى زيادة عجب القارئ فأقول ان المستر مكان هذا كان فراشا في السفارة العراقية بلندن.

ما زلت وانا تلميذ اتذكر هيئته المهيبة ببدلته الرسمية المحترمة وقامته الشامخة ووجهه الانغلوسكسوني الرفيع. كنا نذهب اليه في كل ما يخطر ببالنا من مشاكل. ولحسن حظنا انه بقي يشغل منصب فراش السفارة طوال العهد الملكي والقاسمي والعارفي ولم ينته من خدماته إلا بعد ارتقاء البعثيين الصداميين الحكم في بغداد. بادروا الى طرده بالشكل المشين الذي اشتهروا به في كل شيء. طردوه لأنه كان الرجل العقلاني الوحيد في السفارة، وهو ما يتنافى كليا مع لا عقلانية النظام الصدامي.

عندما حدث انقلاب 14 تموز، كان صديقي عبد المنعم الخطيب احد الدبلوماسيين العاملين في سفارة لندن. وكان عليه واجب قراءة كل ما تقوله الصحف البريطانية عن العراق وثورته. وبالطبع شمل ذلك أي تصريحات يدلي بها احد من المسؤولين. جلس الاستاذ عبد المنعم يقرأ وينقل حتى فاجأه تقرير في صحيفة «التايمس» تميز بعمق وفهم منطقي نادر فاق أي شيء صدر من دبلوماسي عراقي او عربي. وكان المراسل قد نسبه الى ناطق في السفارة العراقية. اثار ذلك عجب عبد المنعم الخطيب الذي كان يعرف ان أي احد من زملائه في المؤسسة غير قادر او مؤهل للأدلاء بمثله. خطر له في الأخير ان الشخص الوحيد الذي كان بإمكانه صياغة مثل ذلك التحليل المنطقي هو الاستاذ عبد الملك الزيبك، القائم بأعمال السفارة.

أخذ الجريدة وأسرع الى مكتبه ليهنئه على هذا التصريح. ولكن الاستاذ عبد الملك قابله بوجه مندهش: اي تصريح وأي جريدة «تايمس»؟ لم اعطهم أي تصريح ولا قابلت أي احد! راح الاثنان يفكران في الأمر. من يا ترى تحدثت معه الصحيفة البريطانية؟ وبينما كانا يتأملان في الموضوع، سمعا طرقا على الباب، ثم دخل الفراش المستر مكان مطأطأ الرأس كمن اقترف ذنبا كبيرا، وهو ما لا يجوز للفراشين. بادر فورا للاعتذار فقال: «مستر زيبك، ارجو ان تعذرني كثيرا على هذا الأمر، ولن يتكرر مني ثانية. فبعد انصرافكم وسائر الموظفين من السفارة يوم امس، وصلنا هذا المراسل من صحيفة التايمس يريد لقاء احد المسؤولين ليحدثه عن الثورة. فتشت في كل المكاتب فلم اجد احدا. اعتذرت للمراسل وبادرت الى صرفه. بيد انه خلال ذلك تبادلنا بعض الكلمات عن الثورة، واذا بي اجد ما قلته له منشورا في هذا اليوم في صحيفته كآراء من مسؤول في السفارة. هذا ما لم اكن قد حسبت له. ارجو معذرتي عن ذلك».

بعد خمس سنوات حدثت ثورة مقابلة أبادت جلّ من قاموا بالثورة السابقة. واستحقوا ما حصل لهم. فلو عينوا الفراش مكان مستشارا لهم لما وقعوا فيما وقعوا فيه.