ومن الفن ما فتن

TT

في هذه المحنة التي يعيشها بلير، رئيس الحكومة البريطانية، وهو ينوء بمشاكل العراق وافغانستان وفضائح الفساد، لم يستطع أن يجد ما يعتز ويتبجح به، غير ازدهار الفنون في بريطانيا، فكرس خطابه مؤخرا قبل ايام لما انجزته حكومته في هذا المضمار، وحول لندن الى قبلة للفنانين والمتعاطين بالفنون من عشاق ونقاد وفنانين وتجار فن.

قد يستغرب القارئ العربي حيال هذه الظاهرة، التي تجعل الانتاج الفني انجازا يطغى على سائر منتجات الدولة. فنحن لا نضع الفنون في غير المكانة العاشرة أو العشرين في اعتباراتنا الوطنية.

ذكرني ذلك بما سمعته من ولدي نايل قبل أشهر. سألته عن أسعد الأوقات التي يعتز بها واعطته أعظم قدر من السعادة في حياته الدراسية. كنت انتظر منه أن يجيبني بالقول بالإشارة الى نيل الشهادة أو حفلة التخرج أو نشر أحد أبحاثه العلمية ونحو ذلك. ولكنه لم يشر إلى أي من ذلك.

فاجأني بالقول أن أسعد وقت قضاه في الجامعة وأعطاه أعظم قدر من الرضى والابتهاج والشعور بالاعتزاز مر به، عندما كان عازفا لآلة الاوبو الموسيقية مع فرقة جامعة اكسفورد السمفونية. قال لي إنك لا تستطيع ان تتصور مدى البهجة التي يشعر بها الانسان، عندما يجلس بين عشرات العازفين ويمسك بآلته الموسيقية ويضع كتاب النوطة أمامه ثم يرى المايسترو يرفع عصا القيادة، ويشير للعازفين بالاستعداد ثم البدء بما تعلموه وأعدوا انفسهم لعزفه من مؤلفات بتهوفن او برامز او شايكوفسكي ونحوهم من عباقرة الموسيقى. تسمع على يمينك عازفة الفلوت، وهي تدخل بألحانها في اللحظة المطلوبة، لا تنتهي من جملتها الموسيقية حتى ينضم اليها عازف الكلارنيت من شمالك. تمضي الآلات الهوائية في مسيرتها حتى يأتي دورك لتنفخ وتلقي بما لديك وما عليك من لحن. الحمد لله، لقد أجدت دوري وها هو المايسترو يبتسم نحوي خفية بما يعني «لقد أجدت يا فتى». تشعر وكأنك خضت اصعب معركة حربية في التاريخ وخرجت منتصرا ظافرا.

تمسك بالأوبو وتتثبت من شفرته استعدادا لمداخلة جديدة وانت تبتهل الى الله ان يمن عليك بإجادة موفقة اخرى. وفي اثناء ذلك تهب ألحان بقية الآلات من ورائك وامامك ومن حولك. ها هو قائد الكمنجات يقود زملاءه من اثنتي عشرة كمنجة ترتفع اقواسها وتهبط، ثم ترتفع وهي تؤدي ما كتبه فاغنر او مندلسن من نغم واصابع العازفين تدغدغ الأوتار وترا بعد وتر.

تشعر وكأنك في بحر لجته كل هذه الانغام التي تتصاعد من الأوتار والأبواق والطبول والهوائيات، كل في وقته وكل حسب ما رسم له وجرى توقيته وضبطت مسافاته.

يطرب الحاضرون لما يسمعونه منها، ولكن أين لذتهم من لذة العاملين على اخراجها وصياغتها وتنغيمها, وهم الجالسون أو السابحون في هذه اللجة من الانغام والميلودي. تنتهي السمفونية أو الكونسرته فتدوي عاصفة التصفيق من المستمعين وهم يصرخون وينادون في سكرة فنية «برافو! برافو!». تشعر وكأنك ملكت الدنيا بكل ما فيها.