روسيا وإيران: الصادم والمصدوم

TT

لفترة زمنية طويلة، وبالذات منذ وصول محمود احمدي نجاد إلى سدة الرئاسة، وإيران تهدد العالم بمخالب «الدب الروسي». لكن «الدب الروسي» اختار عدم الصدام مع العالم، ولا سيما مع الولايات المتحدة، وأراد أن يثبت للجميع بأنه لا يزال عند وعده.

عدد كبير من القادة، بينهم الرئيس الاميركي جورج دبليو بوش، ونائب رئيس الوزراء الإسرائيلي شيمون بيريز، نقلوا عن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وعداً بأنه لن يسمح لإيران بالحصول على السلاح النووي. ويوم الاثنين الماضي، وفي ما بدا انه تنسيق روسي ـ اميركي، قررت روسيا تأخير الانتهاء من العمل في مفاعل بوشهر الإيراني. مصادر موثوقة اكدت ان الرئيس فلاديمير بوتين أصدر أمرا إلى الشركة الروسية المكلفة بناء المفاعل بتعليق كل أعمالها، فأعطت هذه الشركة عذراً بأن إيران تأخرت عن دفع الملايين من الدولارات المتوجبة عليها. أما الواقع فيقول، انه ليس في نية بوتين إكمال مفاعل بوشهر على زمنه.

وحسب المصادر، فان محادثات سرية كانت تجري بين موسكو وواشنطن حول مفاعل بوشهر، وان بوتين تعهد بتأخير نقل الوقود النووي (الدفعة الاولى كانت مقررة بعد اسبوعين كي تفتح المحطة وتبدأ عملها في شهر أيلول/ سبتمبر المقبل أي بعد ستة اشهر من التسليم، كما ينص الاتفاق بين الدولتين)، حتى تخضع إيران لطلبات مجلس الأمن في وضع حد لبرنامج تخصيب اليورانيوم. وتضيف المصادر: إن الروس والاميركيين لن يعترفوا بذلك، لكن الرئيس الروسي لا يريد ازمة مع الولايات المتحدة بسبب التعنت الإيراني.

عندما شاركت إيران يوم السبت الماضي في مؤتمر بغداد حول الأمن، كانت تعيش هَمَّ علاقتها بروسيا، والذي ضاعف من حيرتها أن المحادثات التي أجراها وفد إيراني في موسكو مع مسؤولي شركة «اتومستروي اكسبورت» لم تسفر عن اي نتيجة. كان الوفد أنهى محادثاته يوم الجمعة الماضي، وصرح محمد سعيدي نائب، رئيس منظمة الطاقة النووية الإيرانية، إن بلاده مستعدة أن تدفع مقدماً كل ما يتوجب عليها دفعه بعد إنهاء المشروع لمساعدة الشركة الروسية في تجاوز مشاكلها، وأضاف: «إذا كان الروس غير قادرين على احترام تعهداتهم، فهذا يعني أن المشكلة لم تعد تقنية»، وفي هذا إشارة غير مباشرة إلى أن موسكو ترضخ لضغوط دولية من اجل تجديد الحصار على إيران في قرار جديد للأمم المتحدة.

أما حيرة إيران فتعود إلى أن الرئيس بوتين شخصياً حدد توقيت شحن نظام الدفاع الجوي الروسي «تور ـ ام1» الى إيران، وان وزير الخارجية الروسي ايغور لافروف أصدر بياناً دعا فيه إلى تعميق العلاقات الاقتصادية والتجارية بين روسيا وإيران على ان تتضمن بناء عدة مفاعلات نووية.

يضاف إلى ذلك أن بوتين خلال استقباله الشهر الماضي وزير الخارجية الإيراني السابق علي اكبر ولايتي، الموفد الشخصي للمرشد الأعلى علي خامنئي، أكد تعميق العلاقات الروسية ـ الإيرانية، وعبر عن رغبته في دعوة إيران إلى المشاركة في نقاشات اللجنة الدولية الرباعية التي تبحث التسوية في الشرق الأوسط، كما انه استخف بالادعاءات الاميركية القائلة إن الصواريخ الإيرانية البعيدة المدى تهدد أوروبا.

يبدو أن إيران اعتبرت هذه «البيانات» المدروسة، مدماكاً إضافيا لمواقفها المتشددة والمتحدية، غير آخذة في الاعتبار أن الحكومة الروسية على دراية بحساسية بيع الوقود النووي لإيران في وقت تتجاهل فيه إيران قرارات الأمم المتحدة التي تدعوها إلى وقف تخصيب اليورانيوم.

إن روسيا في وضع محرج، فصناعة الطاقة النووية المدنية مربحة لها، فهي مستقبلاً يمكن أن تكسب مالياً الكثير من إيران التي تريد بناء عدة مفاعلات، ومن هذه المعادلة انطلق علي لاريجاني مسؤول الأمن القومي وكبير المفاوضين في الملف النووي الإيراني عندما قال الأسبوع الماضي، أثناء وجود الوفد الإيراني في موسكو، إن صداقة بلاده مع روسيا على المحك، «وهي ستتعرض لهزة كبيرة إذا ما تراجعت موسكو عن تعهداتها بتأمين وصول الوقود النووي هذا الشهر».

بعد تصريح لاريجاني هذا، انطلقت التعليقات في الصحف الإيرانية، منتقدة الموقف الروسي وجاء فيها: «من يشك بأن روسيا تلعب لعبة سياسية مع بوشهر»، أو: «لقد حوّل الروس بوشهر الى مطية في يدهم لاستغلال إيران». أو ما جاء في احد التعليقات: «إن الكرة الآن في الملعب الروسي، وتعرف موسكو خطورة التحركات الجيوستراتيجية الاميركية، لذلك لا تتحمل روسيا خسارة الثقة والدعم الإيرانيين!».

لكن، من يخسر مَن، ومن يحتاج إلى الآخر؟ تعرف إيران أنها تعتمد على الدعم الروسي لها، وعلى المساعدة الروسية التقنية في بناء مفاعل بوشهر، وما كان عليها أن تفاجأ بالمواقف الروسية خاصة الموقف الأخير، حيث أمر بوتين بتعليق العمل في بوشهر. لقد أرادت روسيا توجيه رسالة قوية وواضحة وعلنية إلى إيران، مفادها أنها منزعجة من مواقف المسؤولين الإيرانيين المتعلقة بالمسألة النووية.

لقد حاولت روسيا ان تكون الشريكة الاستراتيجية لإيران، وان تساعدها في تطوير برنامجها النووي للأغراض السلمية، وبدلاً من أن تتفهم إيران الموقف الروسي أعلنت أنها ماضية في برنامجها لتخصيب اليورانيوم، وقد أثار هذا الأمر شكوك الكثير من الدول، لأنه ما حاجة إيران إلى هذا البرنامج إذا كانت تتطلع إلى أهداف سلمية؟ ثم ان روسيا عرضت قبل سنة على إيران مشروعاً مشتركاً لتخصيب اليورانيوم الإيراني فوق الأراضي الروسية، وبدل أن توافق إيران، أو تناقش مسألة هذا التعاون المشترك، فضلت أن تتجاهل الاقتراح الروسي.

قد يتمسك الإيرانيون اليوم باتهام روسيا بأنها رضخت للضغوط الدولية، لكنهم يعرفون أنهم لم يساعدوها على مقاومة تلك الضغوط، لا سيما ان مصالحها الوطنية تتطلب علاقات جيدة مع إيران، وحلاً دبلوماسيا للأزمة النووية الإيرانية. وكان السفير الروسي في الأمم المتحدة فيتالي تشوركين حث إيران على تقديم موقف إيجابي لمجلس الأمن، كما أن وزير الخارجية الروسي ايغور لافروف أعلن أن روسيا تثق بحكم الوكالة الدولية للطاقة النووية، وقد أقدمت الوكالة الأسبوع الماضي على قطع المساعدات عن 23 مشروعاً نووياً إيرانياً، وكان ذلك بمثابة ضربة موجعة للبرنامج النووي الإيراني.

ويوم الاثنين جاء الموقف الروسي المتعلق بمشروع ليس بعادي، وقد اعتمدت الهيبة الإيرانية على اتمامه طويلاً. ومع هذا الموقف تضعضعت آمال إيران في عرقلة صدور قرار دولي ثانٍ، فروسيا رغم كل ما يصدر عنها تميل الى فرض عقوبات اشد على إيران، وتتقاسم مع فرنسا والمانيا وجهة النظر القائلة بفرض عقوبات تدريجية على إيران، وجعلها اكثر من رمزية. وليل الاثنين الماضي، التقى ممثلو الدول الخمس الاعضاء في مجلس الامن، اضافة الى المانيا، ورغم ان نوعية المقاطعة على إيران التي نوقشت كانت محدودة، إلا ان مواقف الديبلوماسيين المجتمعين كانت موحدة في الاظهار لإيران بأن الامم المتحدة غير موافقة على برنامجها لتخصيب اليورانيوم، ومع ان التوصل إلى اتفاق لم يكن سهلاً إلا انه تحقق، وناقش المجتمعون مسألة حظر بيع السلاح إلى إيران، ومنع المصارف من تقديم تسهيلات مالية للشركات التي تتعامل مع إيران. قبل إعلان موسكو عن تعليق العمل بمفاعل بوشهر، الذي كان من المفروض أن ينتهي عام 1999، دعا الرئيس الإيراني السابق محمد خاتمي الحكومة الإيرانية الحالية إلى تجنب صدور قرار ثان من مجلس الأمن، والى تقديم تنازلات بشأن الملف النووي.

قد تصغي الحكومة الإيرانية الحالية إلى صوت العقل، أو قد تشعر بأن الورقة النووية هي الأقوى في جذب واشنطن للأخذ في عين الاعتبار التطلعات الإيرانية الإقليمية والسعي إلى دور نافذ لها في العراق. إذا مالت إلى الشق الثاني، سوف تقول إن الموقف الروسي لا يلغي الورقة النووية في يد إيران، إذ لا يزال هناك برنامج تحويل اليورانيوم في أصفهان، وبرنامج تخصيبه في ناتانز، ويجري بناء مفاعل للمياه الثقيلة في أراك. ورغم أن هذه المشاريع كلها تحتاج إلى مساعدات أساسية في البنى التحتية، وليس لدى إيران القدرة للتوصل إلى استخراج الوقود النووية نظراً لنقص التقنيات، ولعدم توفر اليورانيوم، إلا انه سيكون من الصعب إقناع الغرب وخصوصاً الأوروبيين، بأن إصرار إيران على مواصلة هذه الأنشطة هو لأهداف سلمية.

لم يكن على إيران الاعتقاد بأن «الدب الروسي» تخلى لها عن مخالبه، ويبدو أن الدولتين تكملان بعضهما ووصلتا بالمراوغة إلى المنعطف الأخير.

ظنت إيران أنها تستطيع أن تشق المجموعة الدولية فاستعملت الدعم الروسي مدماكاً تنطلق منه تصريحات وخطب احمدي نجاد الطنانة، في وقت كانت روسيا تستعمل بوشهر كوسيلة لاستعادة نفوذها في الشرق الأوسط، وطرح نفسها كوسيط لا يمكن تجاهله بين الغرب وإيران. ولم تكن موسكو أصلا راغبة في إنهاء مفاعل بوشهر، فطالما انه في طور البناء، تبقى الوجهة التي تقصدها الأطراف، ولو أنهت التزاماتها وبدأ العمل بالمفاعل، لأثارت غضب الغرب، وأساءت إلى علاقاتها الدولية. ثم ان إيران نووية، على المدى البعيد، هي خطر على روسيا أكثر مما هي خطر على الولايات المتحدة.

ما جرى يوم الاثنين الماضي جرس إنذار جديد للقيادة الإيرانية، بأن روسيا والولايات المتحدة، تشبهان بعضهما بعضاً عندما تتعلق الامور بمصالح دولتيهما ولا سيما بنفوذهما.