أميركا: شمسها لم تغرب.. وعالم القطب الواحد لا يزال قائماً !

TT

يتزايد الكلام وتكثر الأحاديث، المنطلقة من الرغبة والأمنيات أكثر من انطلاقها من الواقع وحقائق الأمور، بأن نجم الولايات المتحدة آخذ بالأفول وأنها فشلت في الشرق الأوسط وأنها لم تعد القطب الأعظم الأوحد في هذا العالم المترامي الأطراف وأن صيغة تعددية الأقطاب في الكرة الأرضية بدأت تحل محل الصيغة «الحالية» التي بدأت مع انهيار الإتحاد السوفياتي في بدايات عقد تسعينات القرن الماضي، واستمرت إلى ما قبل غزو أفغانستان والعراق.

ويبدو أن الذين أوصلتهم رغباتهم الى هذه النتيجة، أي نتيجة أن الولايات المتحدة فشلت في الشرق الأوسط وأن عالم القطب الواحد قد بدأ يتراجع بخطى سريعة ليحل محله العالم المتعدد الأقطاب على غرار ما كان عليه الوضع قبل نحو عقد ونصف من الأعوام، قد استندوا الى اضطرار الأميركيين لحضور مؤتمر بغداد الأخير والجلوس الى جوار الإيرانيين والسوريين والتحاور معهم على انفراد، وأيضاً إلى فك الحصار الذي كانوا فرضوه على دمشق وإرسال نائبة وزير الخارجية الأميركية إيلين سوربري الى دمشق وإن بحجة الوقوف على واقع اللاجئين العراقيين الذين فروا بجلودهم الى الأراضي السورية.

والحقيقة هنا أن الولايات المتحدة لم تقدم أي تنازلٍ لا للإيرانيين ولا للسوريين وأن كل ما في الأمر أن إدارة الرئيس جورج بوش، التي اشتد الضغط عليها من الديموقراطيين ومن بعض الجمهوريين على حد سواء، بادرت في محاولة منها لتنفيس هذا الضغط الى التظاهر بالأخذ بتوصيات بيكر ـ هاملتون المعروفة فوافقت على اجتماع بغداد الآنف الذكر ووافقت على اجتماع آخر مماثل، ولكن بمستوى أقل، لم يتم الإعلان عنه سينعقد في اسطنبول في الحادي والعشرين من هذا الشهر كما وبادرت أيضاً الى إرسال نائبة وزيرة خارجيتها إيلين سوربري الى دمشق في مهمة وصفتها بأنها إنسانية ومقتصرة على الوقوف على أوضاع وظروف اللاجئين العراقيين في سوريا.

ثم وإذا كان هناك من اعتبر أن زيارة خافير سولانا الأخيرة الى دمشق دلالة على ان الأوروبيين لم يعودوا جرماً يدور حول فلك الاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط وأن سوريا تمكنت من تحطيم العزلة التي فرضها الأميركيون حولها بعد صدور قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1959 وبعد مقتل رفيق الحريري فإن هذا غير صحيح على الإطلاق وأن القراءة الصحيحة لحقائق الأمور تشير الى غير ذلك.

قبل مجيء خافير سولانا الى دمشق بثلاثة أيام كانت القمة الأوروبية التي انعقدت في بروكسل قد جددت، وبالإجماع، التزامها بكل القرارات الدولية المتعلقة بلبنان والتي صدرت عن مجلس الأمن الدولي بما فيها قرار «المحكمة ذات الطابع الدولي» والقرار 1701 والقرار 1959 وكل القرارات الأخرى التي أُصْدرِتْ تباعاً قبل وبعد انسحاب القوات السورية من الأراضي اللبنانية وبعد اغتيال رفيق الحريري وما تبع ذلك من تطورات وأحداث.

ولذلك فإن زيارة خافير سولانا الى دمشق تعتبر زيارة مواجهة وتوتير أكثر منها زيارة تهدئة رغم كل ما قيل خلالها من كلام قد يُستشف منه عكس ذلك والدلالة على ذلك أن زيارتين سابقتين للعاصمة السورية قام بهما تباعاً كل من وزير الخارجية الألماني فالتشر شتا ينمر ووزير الخارجية البلجيكي غي فيرهو فشتات قد ثبت لاحقاً أنهما كانتا زيارتي مواجهة وتصعيد وأنهما لم تفلحا في ترطيب العلاقات المتوترة بين سوريا ودول المجموعة الأوروبية.

لقد قال البعض قبل هذه الزيارة أن أهم سبب لها هو أن بعض الدول الأوروبية باتت تخشى، بعد ازدياد التعقيدات في لبنان، على قواتها المشاركة في القوات الدولية الـ«يونيفيل» المرابطة في الجنوب اللبناني وهذه مسألة ربما فيها الكثير من الصحة لكن الأصح هو أن مجيء خافير سولانا الى دمشق يرتبط أساساً: أولاً بالمحكمة الدولية وثانياً بتوسيع إطار قوات الـ«يونيفيل» لتشمل الحدود السورية ـ اللبنانية وثالثاً بقرارات الأمم المتحدة بدءاً بالقرار رقم 1959 ثم القرارات اللاحقة كلها.

غير دقيق القول أن الأوروبيين قد خرجوا نهائياً من إطار «الاستراتيجية» الأميركية في الشرق الأوسط وتمردوا عليها فربما تكون هناك بعض التعارضات المحدودة وربما تكون هناك نزعة «استقلالية» بقيت فرنسا تقودها منذ عهد الجنرال شارل ديغول وحتى عهد جاك شيراك، الذي أعلن قبل ثلاثة أيام أنه لن يرشح نفسه لولاية ثالثة، لكن من حيث الجوهر فإن أوروبا «القديمة» و«الجديدة» لا تزال غير قادرة على مواجهة حقيقة «القطب العالمي» الأوحد وبخاصة أن أولوية الصين المستمرة هي إتمام برامجها الاقتصادية الطموحة وأن روسيا لا تستطيع أن تفعل شيئاً في هذا المجال أكثر من تسجيل المواقف والمناكفات المحدودة.

إن التحول من وضع القطب الأوحد الى وضع العالم المتعدد الأقطاب لا يتم بين ليلة وضحاها وحتى على افتراض أن الولايات المتحدة ستفشل في الشرق الأوسط وستخرج من العراق فإن هذا لا يعني أن الأميركيين سيفقدون مكانتهم الدولية قريباً وذلك لأن الشرق الأوسط ليس هو العراق وحده وثانياً لأن أميركا كانت قد هُزمت في نحو منتصف سبعينات القرن الماضي هزيمة مخزية في فيتنام لكنها بعد أقل من عشرين عاماً تمكنت من تدمير الثنائية القطبية وحققت حلم السيطرة على الكرة الأرضية.

بعد هزيمة الولايات المتحدة المنكرة في «فيتنام» تراجع الدور البريطاني في العالم كله حتى التلاشي النهائي وتراجع الدور الفرنسي في إفريقيا كلها حتى أبعد الحدود ثم بعد ذلك جاءت كارثة أفغانستان وجاء تصدع الستار الحديدي وانهيار الأنظمة الشيوعية في أوروبا الشرقية فانهار الاتحاد السوفياتي والتحقت الصين، التي أدارت ظهرها لأفكار الرفيق ماوتسي تونغ وأخذت بأفكار المصلح العظيم دينغ سياو بينغ، بمصالحها في العالم الرأسمالي فتحقق حلم سيطرة الأميركيين على الكرة الأرضية الذي يواجه بمشاغبات ومناكفات عديمة الفعالية من قبل بعض دول أميركا اللاتينية ومن قبل إيران وروسيا.

إنه غير ممكن الجزم بأن الولايات المتحدة قد فشلت في الشرق الأوسط وأن وضعية عالم القطب الأوحد قد وضعت أقدامها على طريق بداية النهاية مالم تظهر القوة الكونية أو الإقليمية القادرة على ملء الفراغ، عندما يحدث مثل هذا الفراغ، فإيران رغم مشاغباتها غير قادرة على أن تكون هي البديل الإقليمي والصين لا تزال مكبلة بمصالحها الاقتصادية الهائلة مع أميركا وروسيا لا تزال أمامها مسافات طويلة لتصبح بالقوة التي كان عليها الاتحاد السوفياتي في ذروة قوته وعنفوانه.

لم تنه الولايات المتحدة بضربة واحدة صيغة العالم المتعدد الأقطاب لتصبح القطب الأوحد في الكرة الأرضية فعملية التحول هذه استغرقت زهاء قرن بأكمله وإخراج البريطانيين والفرنسيين أولاً ثم الروس ثانياً من الساحة الدولية كقوى عظمى لم يتم بين ليلة وضحاها فهناك الحروب الإقليمية المتلاحقة وهناك مواجهات وثورات وانقلابات عقد خمسينات القرن الماضي وهناك حروب إفريقيا وحروب الشرق الأوسط وهناك حرب السويس التي وجَّه الأميركيون خلالها الضربة القاضية للنفوذ البريطاني في هذه المنطقة.

لاشك في أن الإمبراطورية الأميركية ستبلغ سن الشيخوخة ذات يوم مثلها مثل الإمبراطورية الرومانية ومثلها مثل الإمبراطورية العثمانية والإمبراطورية البريطانية والإمبراطورية الفرنسية وإمبراطورية آل هابسبورغ النمساوية ـ المجرية لكن هذا اليوم وفقاً، لكل المعطيات والمؤشرات القائمة، يبدو أنه لا يزال غير وارد لا في عام ولا عامين ولا حتى في عشرة أعوام.

لن تبقى الولايات المتحدة بكل هذه القوة وعلى هذه الهيمنة الى أبد الآبدين والدول كما قال إبن خلدون تمر بمرحلة الطفولة والشباب قبل أن تصل الى مرحلة الشيخوخة وقال هنري كيسنجر أن ظاهرة القوة المطلقة بدأت بالشرق وانتهت في الغرب، وأنها بعد الولايات المتحدة ستعود حتماً الى هذا الشرق الذي بدأت صين دينغ سياو بينغ تبرز فيه وفي أيضاً العالم كله كقوة رئيسية.

إن كل ما يعتبره البعض هزائم مدوية للولايات المتحدة وبالتالي لوضعية القطب العالمي الأوحد هو مجرد نزلات برد حادة وزكام مزعج فالانهيار الذي يجري الحديث عنه لا يزال مبكراً ولعل ما يجب أخذه بعين الاعتبار أنه إذا كان الجمهوريون بقيادة بوش الأول وبوش الثاني قد وضعوا أميركا في هذا الوضع الذي لا تحسد عليه، فإن الديموقراطيين قادمون، ولذلك فإنه من المبكر القول أن الأميركيين فشلوا في الشرق الأوسط، وأن العالم المتعدد الأقطاب بات يقف على الأبواب، وأن المسألة على هذا الصعيد باتت مسألة سنة أو سنتين أو حتى عشر سنوات وأكثر.