بوش وأميركا اللاتينية: حكاية هذه السفينة التائهة

TT

فعل الرئيس بوش خيرا بذهابه إلى أميركا اللاتينية. وهو هنا إنما يزور البلدان المناسبة ويعبر عن المواضيع المناسبة، مؤكدا على أن الولايات المتحدة تدعم حكومة ديمقراطية وأسواقا مفتوحة و«عدالة اجتماعية»، (وهي عبارة لم أسمع استخدام بوش لها من قبل، والتي لا بد أن تسبب قرحة لبعض مؤيدي بوش من الجناح اليميني). ولكن صورة بوش الجديدة في المنطقة، لن تقدم خيرا كثيرا، فما قام به شيء قليل من جهة وشيء متأخر من جهة أخرى.

فالسياسة الخارجية الأميركية تجاه أميركا اللاتينية، والى انتخاب بوش في عام 2000، كانت في الطريق السليم لفترة عقدين. فقد قاد رونالد ريغان تحولا استثنائيا داعما حقوق الإنسان والديمقراطية والتجارة الحرة في عدد من البلدان. ولعبت إدارته دورا مهما في إنهاء الدكتاتوريات في تشيلي وباراغواي، من بين دول أخرى. وعرض سياسات تجارة جديدة تحفز على النمو في المنطقة. وربما كان الأكثر أهمية انه بدأ تقليد الدعم والتعاون من أجل الإصلاح المكسيكي الذي أصبح معيارا لإدارات أميركية لاحقة، فيما وسع من جاءوا بعده، جورج بوش الأب وبيل كلينتون، هذه السياسات الأساسية. فصاغوا اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية، ودعموا إصلاحات المكسيك ودمقرطتها، ودفعوا الأمور باتجاه اتفاقية تجارة حرة للعالم الغربي بأسره.

ويقول جورج دومنغيز الباحث من أميركا اللاتينية في جامعة هارفارد: «إنه وعبر أربع ولايات رئاسية طورت الولايات المتحدة سياسة ناجحة تماما تجاه أميركا اللاتينية. وقد أوقفت تلك الحركة المتقدمة وتغير اتجاهها على يد بوش». فقد جاء بوش إلى الإدارة بقليل من الأفكار حول ما كان يريد عمله في المنطقة (باستثناء المكسيك، حيث طرح خطة هجرة طموحة وبارعة). وجرى تجاهل أميركا اللاتينية إلى حد كبير، خصوصا بعد الحادي عشر من سبتمبر على الرغم من أنه هنا كما في الأماكن الأخرى، فإن القصة المألوفة لعدم الكفاءة والأيديولوجيا تميز السياسة الإقليمية.

والمسؤولان الكبيران اللذان عينهما بوش للمنطقة كانا روجر نورييغا، وهو من الموظفين السابقين في مكتب السناتور جيسي هيلمز، وأوتو ريتش، الذي كان غريب الأطوار بحيث أن السناتور الجمهوري نفسه رفض تسميته في الأخير. وتقدم الاثنان لتبديد معظم السمعة الطيبة التي راكمتها الولايات المتحدة خلال العقدين الماضيين. فقد راحا يتدخلان مباشرة في الشؤون الداخلية للدول، داعمين ومعارضين مرشحين مختلفين للانتخابات في السلفادور ونيكاراغوا وبوليفيا وبالطبع فنزويلا. وفي ما يتعلق بكاراكاس بدا أن ريتش دعم محاولة انقلاب فاشلة ضد هوغو شافيز.

أما في جانب التجارة، فقد أبطأت إدارة بوش الزخم الذي أفرزته اتفاقية التجارة لأميركا الشمالية (نافتا) من خلال فرضها تعريفة على الصلب يعاقب بموجبها المنتجون في دول مثل البرازيل، كما أجبرت دول أميركا الوسطى على توقيع اتفاق تجاري غير مناسب. وإلى ذلك فالاتفاقية التجارية لأميركا الوسطى لا تعدو أن تكون عودة إلى الأسلوب القديم للصفقات التجارية، إذ يقول دومنغيز في هذا السياق: «أجبرت هذه الاتفاقية الدول الصغيرة والضعيفة على تحرير اقتصادها، إلا أن الولايات المتحدة لم تفتح أسواقها على النحو المطلوب أمام منتجات هذه الدول.

تدرك دول أميركا الوسطى إن هذه الاتفاقية ليست منصفة، لكنها كانت على قناعة بأنها مجبرة على توقيعها، كما تساعد الاتفاقية على إقناع المنطقة بأن مواقف الولايات المتحدة فيما يتعلق بالتجارة الحرة، تتسم بالنفاق إلى حد كبير».

تغيرت سياسات واشنطن الخارجية تجاه أميركا اللاتينية، خلال فترة كوندوليزا رايس ومسؤول ملف أميركا اللاتينية بالخارجية الأميركية توماس شانون. إذ تفادت واشنطن كل ما يمكن أن يبدو وكأنه تدخل سافر في شؤون الدول. تحدثت الإدارة بصورة ايجابية عن الشراكة الأميركية والمساعدات، كما أن بوش بذل بعض المساعي في معالجة القضايا الأكثر أهمية لدى الحكومات المنطقة مثل الوقود البيئي في البرازيل والهجرة في المكسيك والتجارة في كل مكان.

المشكلة الوحيدة تتمثل في أن بوش يعمل الآن من دون أن يكون لديه أي هامش للمناورة. يضاف إلى ذلك أن شعبيته ضعيفة في أميركا اللاتينية. وعلى الرغم من أن حملة شافيز ضد زيارة بوش تبدو سخيفة، فإنها لعبت دورا في نشر المشاعر العامة تجاه الإدارة الحالية. وداخل الولايات المتحدة يواجه بوش شكوكا عميقة داخل مجلسي النواب والشيوخ تجاه سياسته، حتى عندما تكون صحيحة.

وفيما يتعلق بالتجارة، ليس لدى بوش أي نفوذ سياسي. أضف الى ذلك أنه ودون تخفيض الولايات المتحدة التعريفات المفروضة على الصلب، فسيكون أي حديث حول الشراكة مع البرازيل في مجال الوقود البيئي بلا أي معنى. وبنفس القدر ستظل علاقة الولايات المتحدة مع المكسيك متوترة من دون التوصل إلى إصلاحات شاملة لنظام الهجرة.

المأساة هنا مألوفة. فعندما كان لدى بوش هامش واسع للمناورة عام 2001، انتهج سلسلة من الممارسات الأيديولوجية التي ألحقت أضرارا بالغة بنفوذ وهيبة الولايات المتحدة. والآن، بعد أن حاصره الفشل، انتقل إلى انتهاج سياسات أفضل من السابق، ليس فقط تجاه أميركا الجنوبية، وإنما كوريا الشمالية وحتى الشرق الأوسط. ومع ذلك فبوش يسير الآن وحيدا مع بضعة مؤيدين داخل الولايات المتحدة أو خارجها، فيما يبدو أن جورج بوش سيكرر هذا السلوك من منطقة إلى أخرى، وتجاه مختلف القضايا، خلال فترة الـ22 شهرا المتبقية من رئاسته.

* رئيس تحرير النسخة الدولية لمجلة «نيوزويك»، خدمة «واشنطن بوست» ـ (خاص بـ«الشرق الأوسط»).