تحرير المرأة .. وهذا الانحناء الذليل للغرب

TT

في سبيل الدعوة إلى التوجه الكلي لـ«محاكاة أوروبا»، قال قاسم أمين في مشاكل اللغة العربية: «لا أدري ما هي غاية الكتاب الذين إذا أرادوا التعبير عن اختراع جديد يجهدون أنفسهم في البحث عن كلمة عربية تقابل الكلمة الأجنبية المصطلح عليها، كاستعمالهم مثلا كلمة السيارة بدلا من كلمة الأوتوموبيل. إن كان المقصد تقريب المعنى إلى الذهن فالكلمة الأجنبية التي اعتادها الناس تقوم بالوظيفة المطلوبة منها على أوجه أتم من الكلمة العربية، وإن كان مقصدهم إثبات أن اللغة العربية لا تحتاج إلى اللغات الأخرى فقد كلفوا أنفسهم أمرا مستحيلا...» ـ قاسم أمين، الأعمال الكاملة، تحقيق دكتور محمد عمارة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر 1976، ج /1 ص/157.

مع هذا المقتطف الشاهد على رغبته في الجمود على كلمة فرنسية أو أجنبية مع وجود كلمة عربية مرادفة وأسهل للناس (بدليل انقراض كلمة أوتوموبيل في بلادنا وسيادة سيارة وعربية) نجد حضرته متأففا نافدا صبره يكتب شاكيا: «يظهر أن باب الاجتهاد أغلق في اللغة كما أقفل باب التشريع، فقد صار من المقرر بيننا أن اللغة العربية وسعت وتسع كل شيء...» – ج/1 ص/ 158.

أما اجتهاده فيكون بتطعيم اللغة العربية الفصحى بـ«..طرق التعبير الجميلة التي نسمعها أحيانا في لغة العامة..» ـ ج/1، ص/158. وحين يكتشف أن الناس يلحنون في العربية، يجد أن هذا: «برهان كاف على وجوب إصلاح اللغة العربية»، وكيف يكون ذلك برأيه؟: «...أن تبقى أواخر الكلمات ساكنة لا تتحرك بأي عامل من العوامل..».

كتب قاسم أمين كتابيه الشهيرين «تحرير المرأة» عام 1899، ثم «المرأة الجديدة» عام 1900، وبهما من اللغة الركيكة والحشو الممل ما يضيق الصدر عن عظمة الأوروبيين والأمريكان وعن أسباب تقدم الأنجلو ساكسون، كيف أن نشاطهم وجراءتهم وإقدامهم وتبصرهم وفطنتهم وجميع الصفات التي تعترف كل الأمم بامتيازهم فيها عن سواهم هي نتيجة لعب الكرة والسباحة وركوب الخيل، ج/2، ص/78. وحين يعدد أخطاء المرأة المصرية، التي لا يجيد حصرها، يتناقض فيأخذ عليها تارة كونها لا تجيد سوى التزين لزوجها ومسامرته فيقول: «ولما لم يبق للعقل ولا للأعمال النافعة قيمة لديها وإنما بضاعتها أن تسلي الرجل وتمتعه.... وجهت جميع قواها إلى التفنن في طرق استمالته إليها والاستيلاء على أهوائه وخواطر نفسه..» ـ ج/2، ص/23. بعد ست صفحات من هذا الكلام يأتي قوله متهما المرأة المصرية بأنها جاهلة حتى في أمر زينتها ومسامرة زوجها، فنراه متفلسفا: «.... ذلك أن المرأة الجاهلة تجهل حركات النفس الباطنة، وتغيب عنها معرفة أسباب الميل والنفور فإذا أرادت أن تستميل الرجل جاءت في الغالب بعكس ذلك...» ـ ج/2، ص/29.

يلاحظ دكتور محمد عمارة، جامع الأعمال الكاملة لقاسم أمين ومحققها، أن الأجزاء الإسلامية الطيبة في الكتابين غريبة على كاتب يقول: «في البلاد الحرة قد يجاهر الإنسان بأن لا وطن له ويكفر بالله ورسله ويطعن على شرائع قومه وآدابهم وعاداتهم... يقول ويكتب ما شاء ولا يفكر أحد...أن ينقص شيئا من احترامه لشخصه متى كان قوله صادرا عن نية حسنة واعتقاد صحيح. كم من الزمن يمر على مصر قبل أن تبلغ هذه الدرجة من الحرية...» ـ ج/1، ص/165. لذلك نجد الدكتور عمارة، بقرائن بحثه العلمي يقول: «... ففي تحرير المرأة وبالذات في الفصول التي تتناول وجهة نظر الشريعة والدين في هذه القضية، نلتقي بمجموعة من الآراء الفقهية والمناقشات لا يستطيع أن يبحثها ولا أن يستخلصها كاتب مثل قاسم أمين... وأهم من ذلك نجد أحكاما كلية تدل على أن صاحبها ومصدرها قد استقصى بحث هذا الأمر في جميع مصادره الرئيسية في الفكر الإسلامي، على اختلاف مذاهبه وتياراته الفكرية، وهو الأمر الذي لا نعتقد أنه قد توافر في ذلك العصر سوى لقلة قليلة في مقدمتهم جميعا الأستاذ الإمام محمد عبده». المصدر السابق، المقدمة، دراسة في فكر قاسم أمين، ص/144.

هذا هو اجتهاد العلامة دكتور محمد عمارة، ألا يكون من حقه هذا الاجتهاد ويكون من حق الأستاذ قاسم أمين الدعوة إلى الاجتهاد بالعبث في اللغة العربية والدعوة إلى حق المجاهرة بالكفر؟ يا سبحان الله!

إنني واحدة من المؤيدين لاستنتاج دكتور عمارة بأن الأجزاء الفقهية العلمية في كتابي قاسم أمين «تحرير المرأة» و«المرأة الجديدة»، ليست من كتابته لأنها خارج قدراته العقلية المتسمة بالتناقض والتشويش والتسطيح والانحناء الذليل للمدنية الغربية، فكيف لمن يقول في الأجزاء الإسلامية: «ولو كان لدين سلطة وتأثير على العوائد لكانت المرأة المسلمة اليوم في مقدمة نساء الأرض. سبق الشرع الإسلامي كل شريعة سواه في تقرير مساواة المرأة للرجل، فأعلن حريتها واستقلالها يوم كانت في حضيض الانحطاط عند جميع الأمم، وخولها كل حقوق الإنسان...» إلخ إلخ إلخ، ج/2 ص/15، يكون هو الذي يقول: «نحن لا نستغرب أن المدنية الإسلامية أخطأت في فهم طبيعة المرأة وتقدير شأنها، فليس خطؤها في ذلك أكبر من خطئها في كثير من الأمور الأخرى..»؟

إذا لم تكن الأجزاء الإسلامية من كتابة الأستاذ الإمام محمد عبده، الذي يكون قد تصدق بها على الفقير قاسم أمين، فهي من كتابة عالم آخر والله أعلم.