موري.. تانية

TT

إذا ما سألت عرب المشرق عن الذي يعرفونه عن موريتانيا لن تجد إجابات تشفي وتسر السامعين. فالمعلومات القليلة المتوفرة ليست بكافية، فالبعض يعرف أن موريتانيا مرت عليها أكثر من عشر محاولات انقلاب عسكري، منها ما فشل ومنها ما نجح، وقد يعرف أيضا أنها كانت تحت الاحتلال الفرنسي سنوات طويلة، وأن أشهر من حكمها هما مختار ولد داده والآخر ولد الطايع، وقد يدرك البعض أن بموريتانيا مدينة قديمة من مدن العلم الشرعي الأصيل بالعالم الاسلامي وهي مدينة «شنقيط» مثلها مثل بغداد والقاهرة ودمشق والقيروان، وهي المدينة التي تخرج منها أبرز علماء العالم الاسلامي الشيخ بن بيه، أو كما أطلق عليه مؤخرا حبر العالم الاسلامي، ومن الممكن أن يعرف البعض أن موريتانيا بها ثروة سمكية غير بسيطة نظرا لساحلها المهم والكبير على المحيط الاطلسي. ولكن موريتانيا تعرضت لانقلاب عسكري منذ فترة، وتولى الحكم فيها أحد كبار قادة الجيش، وهو ابن فال، ووعد حين تسلمه الحكم وتأسيسه لمجلس عسكري حاكم، بأنه هنا لمرحلة مؤقتة، وأنه سيسلم الحكم لمدني بعد رحيله. وطبعا نال هذا التصريح الكثير من السخرية، وتزايدت حالات اللاتصديق ممن استمع اليه. ولكن اليوم موريتانيا تعيش تجربة الانتخابات الرئاسية التي وعد بها ابن فال ورفاقه.

انتخابات بها عدد غير بسيط من المرشحين، وتجري بيسر وشفافية وسوية واحترام بشكل حضاري لافت. وتدحض التجربة الموريتانية بقوة، مقولة أن المجتمعات العربية غير جاهزة ولا مستعدة للديمقراطية، فها هو المجتمع الموريتاني برجاله ونسائه يشارك بانصاف كمرشحين وكمصوتين في هذه التجربة، وسط مجتمع به خليط دقيق من الافارقة والعرب، ولكن مصلحة البلاد العليا بقيت هي الحكم والفيصل. موريتانيا وتجربتها الديمقراطية الجميلة، هي أكبر بارقة أمل وشمعة مضيئة في الظلمات العربية الدامسة. توقيت هذه التجربة ونجاحها المبهر من دون إدعاءات أو اعتراضات بحجج التهديد أو التزوير أو غيرها من الاقاويل، التي باتت معدة وجاهزة للاطلاق في كل انتخابات عربية. دول كثيرة سبقت موريتانيا في مسيرة الاصلاح السياسي، ولها باع طويل في الحراك البرلماني، وكذا في حرية الصحافة والرأي (وإن كان ذلك بصورة نسبية) إلا أن كل هذا الحراك لم يؤمن لهذه الدول العربية درجة ثقة بالأنظمة السياسية ولا بالأجهزة الادارية المختلفة، لأن التجربة في معظم الأحيان وبالمجمل كانت تجربة محدودة وغير مكتملة، مما يجعل المتابعين لها مقتنعين بأن هذه التجربة في الواقع مقننة ولغايات بعينها.

التجربة الموريتانية ترفع سقف التوقعات واحتمالات الممكن واللاممكن، وتجعل التجارب التي سبقتها في واد آخر. هناك مخاوف كبيرة من أن يكون مصير التجربة الديمقراطية الوردية في موريتانيا، كتلك التي حدثت في السودان من قبل، والتي جاءت بعد الوعد الشهير لعبد الرحمن سوار الذهب قائد الانقلاب العسكري، على حكم الرئيس السابق جعفر نميري، الذي وعد بتسليم الحكم لمدنيين بعد انتخابات حرة وقد فعل، إلا أن «فيروس» الانقلابات العسكرية الفتاك، عاد لينهش في الجسد السوداني من جديد. التجربة الديمقراطية الموريتانية دخلت التاريخ من أوسع أبوابه وبقاؤها حية وقوية مسؤولية العرب جميعا.

[email protected]