النخوة

TT

هناك كلمة صغيرة وموجزة في اللغة الشعبية الدارجة لمعظم البلدان العربية تحمل على صغرها عوالم واسعة من القيم والأعراف التي تشكل بنية المجتمع العربي. هذه الكلمة هي «النخوة» وتعني المساعدة والعون والدعم والحماية ونحو ذلك من القيم الحميدة التي تقوم عليها المجتمعات البسيطة. وأعتقد أنها مثل كلمة «الخوة» مشتقة من كلمتي الأخوة والإخاء. هناك تطبيقات وحكايات شعبية كثيرة وردت عنها. من ذلك تعامل سكان الفرات المحافظين والمتدينين مع الشيوعيين. فمما نتذكره أن مؤسس الحزب الشيوعي العراقي كان يوسف سلمان الملقب بفهد وقد عاش في مدينة الناصرية على ضفاف الفرات. ويظهر أن هذه الحقيقة البسيطة الهامشية أعطت إشعاعا رغم ذلك فانتشرت الشيوعية بين الكثير من شباب تلك المنطقة في تلك الأيام الخوالي.

بعد أن اعتقل فهد وسيق الى السجن تفرق رفاقه في المنطقة. التجأ ثلاثة منهم الى منطقة البطحاء واستضافهم القوم، آووهم وأطعموهم في إطار مفاهيم النخوة. وكانت المنطقة يهيمن عليها الشيخ فالح السعدون، شيخ المنتفك. أبلغته الشرطة بأن ثلاثة افندية قد اخذوا يظهرون في الديرة ويعيشون بين سكانها المدشدشين والمعقلين بما يثير الشبهات. سألهم الشيخ فالح: ماذا يعملون؟ هل يعتدون على الحريم أو حطوا عيونهم عليهن؟ أجابوه فقالوا: لا خير. هالزلم في منتهى الأدب والخلق. قال: هل سرقوا شيئا من احد؟ هل اعتدوا على احد؟ قالوا: لا. لا يأخذون شيئا الا ودفعوا ثمنه. عاد فسألهم: ما الذي يفعلونه؟ قالوا: يكتبون ويوزعون بعض الورق على الناس. قال: هذا كل فعلهم؟ اتركوهم ولا تشغلون بالكم بهم. الناس هنا ما يعرفون يقرأون! اتركوهم!

ومرت الأيام والأشهر والرفاق يكتبون ويطبعون مناشير الحزب الشيوعي ويوزعونها في المنطقة حتى أزعج ذلك المسؤولين فاستدعى المتصرف الشيخ فالح السعدون. وسأله في الأمر. قال له: عندك ثلاثة من الشيوعيين يوزعون منشورات شيوعية. اجابه الشيخ بحكمة العارفين: وشنو اللي صار وحصل منها؟ ثم استأنف الكلام وقال له: اريد اقص لك هذي السالفة. عن ابن عمنا الشيخ مطلق الخيون. كان قد تزوج من اثنتين. وولدت كل واحدة منهما صبيا. كان واحد اسمه خلف والثاني اسمه عبود. كبر الولدان واخذهما الشيخ للملا. قال له خلي بالك عليهما وعلمهما زين. وعندك العصا الخيزرانة. اذا خلف قصر بالدرس وعمل لك الشيء الناقص شغّل الخيزرانة على اخيه عبود. واذا عبود قصّر وما سمع كلامك، شغّل الخيزرانة على اخيه خلف!

التفت رئيس عشائر السعدون وقال للمتصرف هالأولاد الثلاثة الشيوعيين مثل اولادنا. عايشين في ديرتنا. اذا واحد منهم عمل مشكلة، نشغل الخيزرانة على صاحبه. ضحك المتصرف وانتهى الأمر. وبقي الرفاق الثلاثة ينشطون ولم يتطلب أمرهم تشغيل الخيزرانة على أي احد منهم وانتهى مصير العراق بيد الأحزاب الإسلامية كما نرى.