حقيقة الصراع على كركوك

TT

يشاهد زائر المناطق الشمالية في العراق، عبارة بارزة، كتبت بعناية كبيرة على سفوح الجبال، تقول «كركوك قلب كردستان»، وتثير هذه العبارة أسئلة عديدة، لمن يشاهدها في تلك الأماكن، فيراجع الجانب الجغرافي، ليكتشف بسهولة، إن مدينة كركوك، لا تقع داخل الرقعة الجغرافية للمحافظات الشمالية الثلاث (السليمانية، اربيل ودهوك)، ومن يبحث في الجانب الديمغرافي، فإنه لا يصل إلى إجابة واضحة لذلك الشعار، ويدرك بعد قليل من العناء، أن ما هو موجود في هذا القلب، لا يتعدى الميدان السياسي، وتحديدا الشعارات، التي يتم استخدامها للحشد والتعبئة، أكثر من الاستخدام الواقعي، الذي يمهد إلى رسم خارطة واقعية، تفضي الى نتائج ايجابية على صعيدي السلم المدني، والتنمية البشرية، التي تنبع من التآخي والاتحاد، بعيدا عن الطروحات السياسية الشعارية، التي تثير هذا الطرف أو ذاك.

من الناحية الجغرافية، تربط مدينة كركوك، بين نواحي وأقضية محافظتي ديالى وصلاح الدين، مع القرى والقصبات الشمالية، ومن الناحية السكانية، يسكن هذه المدينة التركمان والعرب والأكراد، وتمثل نموذجا للتمازج والاختلاط بين هذه القوميات، ومذهبيا يقطن في كركوك من الجانبين، ودينيا يعيش فيها المسلمون والمسيحيون، وسكنها اليهود منذ أن وصلوا إليها في زمن الآشوريين (خلال القرنين السادس والخامس قبل الميلاد) حتى ستينات القرن الماضي، بعد أن حصلت موجات الهجرة لليهود العراقيين، التي بدأت منذ عام1947، واستمرت خلال الخمسينات والستينات من القرن العشرين. ومن حسنات هذا الاختلاط السكاني، هو معرفة غالبية السكان لغة الآخر، وتجد العربي والكردي والتركماني، يتفاهمون بهذه اللغات الثلاث، ويتبادلون المفاهيم المعرفية والثقافية والحضارية، وبعيدا عن الأزمات، التي يصنعها السياسيون من جميع الأطراف، فإن حياة الجميع، تتسم بالمودة والتكامل والتفاعل الإيجابي على جميع الصعد.

إلا أن ظهور عنصر جديد في هذه المدينة، ساهم في خلق الأزمات، وأثار الحساسيات، وهذا العنصر هو وجود النفط بكميات كبيرة في حقول كركوك النفطية، وكانت شعلته الغريبة، التي تضيء ليل المدينة منذ فترة طويلة، قد تحولت إلى شعلة تهدد حالة التآلف والتعايش بين أطياف هذه المدينة، لأنها تحتاز على الثروة النفطية، ما يحول هذه الثروة من نعمة إلى نقمة، وقد تصل إلى ما هو خطير ومدمر لهذه المدينة وهلها.

إن صراع السياسيين على هذه المدينة آخذ أشكالا متعددة، ويمكن تقسيمه إلى ثلاثة إشكال هي:

الأول: تخوف الحكومات المركزية بعد تأسيس الدولة العراقية، وتحديدا عندما تم اكتشاف النفط وازدادت أهميته في السوق العالمية، من خروج هذه الثروة من سيطرتها، وبذلك تفقد موردا مهما من مصادر تمويل الدولة العراقية، ولأن المناطق الشمالية في العراق، بقيت في حالة من القلق وعدم الاستقرار، فإن هذا التخوف رافق حكومات بغداد، خاصة بعد انتهاء الملكية عام1958، وصعود الزعيم عبد الكريم قاسم إلى السلطة، والحكومات التي جاءت من بعده الحكم العارفي1963 وحكم حزب البعث1968. وسيطر على هذه الحكومات هاجس ضرورة عدم التفريط في الثروة النفطية المتوفرة في مدينة كركوك. واستمر النزاع بين بغداد والقوى الكردية، خلال تلك العقود، وكان الملا مصطفى البارزاني، هو الذي يقود التمرد على السلطة المركزية في بغداد، وحصلت معارك دامية خسر فيها الجانبان الكثير من الأرواح والأموال.

الثاني: بقيت تركيا تلوح من بعيد، ولم تترك مناسبة إلا وأعلنت عن وجودها على نقطة التماس، تحت ذريعة الدفاع عن التركمان الموجودين في مدينة كركوك، وخشية تعرضهم لأي نوع من الاضطهاد من قبل القوى والأطراف الأخرى، ولم تتردد أنقرة عن التلويح بالسيطرة على ما تطلق عليه (ولاية الموصل) والتي تمتد استنادا إلى الاتفاقيات الدولية، التي تم فيها تقسيم المنطقة، بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، إلى مدينة كركوك. ومن المعروف أن تركيا تحاول استغلال مسألة الدفاع عن التركمان، لتحقيق هدفين رئيسيين، الأول يتعلق باستمرار الضغط على أكراد العراق، لكي لا يكون هناك أي متنفس يستثمره أكراد تركيا، التي تطلق الحكومات التركية عليهم تسمية (أتراك الجبال) ولا تسمح لهم باستخدام اللغة الكردية، والثاني الضغط باتجاه استمرار ضخ نفط كركوك من خلال الأراضي التركية، وصولا إلى ميناء جيهان، والذي يحقق موارد مالية للخزينة التركية، ويبقى السيف التركي مسلطا على القرار الاقتصادي العراقي، وان أية ضغوطات وتحركات لا تتسق والرغبات التركية، ستسارع أنقرة إلى استخدام ورقة تسويق النفط عبر اراضيها.

الثالث: القوى السياسية الكردية، التي تحرص على ضم كركوك الى المنطقة الكردية، وتصاعدت تلك الحملات والدعوات مع ازدياد أهمية الثروة النفطية، ومن يتابع الخطاب السياسي للزعماء الاكراد، خلال العقود الماضية، يجدها تزخر بالوعود للأكراد العراقيين من خلال رسم صورة الرفاهية والتنمية، وهذا لن يحصل من دون موارد اقتصادية، ولأن هذه المناطق لا تمتلك مصادر لمثل هذه الموارد، فإن نفط مدينة كركوك كفيل بتحقيق ذلك، ويتجسد هذا الطرح الكثيف والضخ الإعلامي والسياسي في إصرار القوى الكردية على تطبيق الفيدرالية، التي تحقق مطالبهم الأساسية الخاصة بالثروات، واستخدامها وفق ما جاء بالدستور الذي تم إعداده وصياغته في ظل الاحتلال الأمريكي للعراق، وجرى الاستفتاء عليه في الخامس عشر من اكتوبر2005. ومن يدقق ويحلل خطاب القادة الأكراد سواء من الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود البارزاني أو الاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة جلال الطالباني، يجد أن مرتكزات هذا الخطاب، لا تفك من المطالبة بمدينة كركوك، التي تقول الشعارات المنقوشة على الجبال، إنها قلب كردستان رغم بعدها الجغرافي بعض الشيء، ولا يتحدث هذا الخطاب عن عناصر ثقافية وحضارية ومرتكزات من هذا القبيل، بل انه يميل إلى رسم الخارطة المستقبلية، استنادا إلى الثروة النفطية في مدينة كركوك، ما يؤكد أن الفيدرالية المطروحة في العراق، هي فيدرالية نفطية ليس إلا.

إن الفضاء السياسي، الذي تحرص الزعامات السياسية الكردية، على التحليق في محيطه، لا يحقق التكامل بين الأطياف والأطراف العراقية، لأنه يهدف إلى الاستحواذ على الثروة الموجودة في مدينة كركوك، ما يجعل الحافز الأساسي للاهتمام بها، يرتبط بذهب أسود، ولا علاقة له بالروابط الثقافية والحضارية والتاريخية، وإذا ما خضع هذا الأمر لنقاش واسع ومعمق، فإن الكثير من الشعارات المطروحة من قبل القوى السياسية الكردية، سوف لن تجد لها حضورا في أرض الواقع الاجتماعي العراقي.

ان وجود الثروة النفطية في مدينة كركوك، يدفع بالمزيد من التفاعلات الداخلية والخارجية، ويثير الحساسيات، ومهما حاول هذا الطرف أو ذاك تغليف المسألة بألوان وأغطية، فإن الحقيقة الثابتة، تؤكد أن الثروة النفطية في كركوك، هي التي جعلتها تذهب بكامل شعلتها لتحتل مكانا بارزا في قلب جبال اربيل، ووضع اسم هذه المدينة بين أفواه السياسيين الأكراد، وحرصوا على زجها في مفاوضاتهم، مع الأطراف الأخرى وحصلت خلافات ونقاشات وجدال واسع بسببها.

كما إن الحكومات العراقية، قد حرصت على اجتياز كركوك لأنها تضخ الذهب الأسود إلى الميزانية، ولا يمكن الاستغناء عن وارداتها. ولهذا لا تريد أن تتنازل عن هذا المورد المهم، وفي الوقت نفسه تعبر بذلك عن حرصها على وحدة العراق.

ويستخدم الأتراك هذه الورقة، ليس بعيدا عن تلك الطموحات والمآرب التي تحدثنا عنها، ولا نريد الإطالة بالحديث عن مدينة كركوك، ولكن نقول، لو ان النفط غاب فجأة عنها، فإن خمسين في المائة من الاهتمام بها سيزول، ولو احتاجت كركوك لمساعدات طارئة لكارثة ما، لا سمح الله، فإن الخمسين في المائة الأخرى ستزول، وسيدير الجميع وجوههم عن هذه المدينة، التي يزداد الاهتمام بها، لأنها قلب هذا الطرف أو ذاك، بل لأنها تطفو على هذه النقمة من النفط ليس إلا.

* كاتب عراقي