السؤال الغائب: عن أي إيران نتحدث؟

TT

كلما شحت أفكار العارفين حول كيفية التعامل مع النظام الخميني يخرجون باكليشه: تحدثوا إلى إيران!

ولأن ذاكرة العالم المعاصر قصيرة، فإن معظم الناس يجدون الاقتراح عبقريا. ويبدو الأمر كأنه ما من أحد تحدث إلى رجال الدين سابقا.

غير أن الحقيقة هي أن كل القوى، بما فيها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، تحدثت إلى رجال الدين، كلما رغب رجال الدين في ذلك.

ويظهر تاريخ النظام الخميني منذ توليه السلطة عام 1979 أن كل من حاول المشاركة في مفاوضات مع العالم الخارجي، وخصوصا الولايات المتحدة، يواجه نهاية لا يحسده عليها كثيرون.

وجرى الاتصال الأول بين الولايات المتحدة ورجال الدين في نوفمبر 1978، مباشرة بعد أن بدأ الخميني نشاطه في ضاحية بالعاصمة الفرنسية باريس. فقد سافر جورج كيف، أخصائي القضايا الإيرانية في وكالة المخابرات المركزية الأميركية، إلى باريس والتقى بمساعدي الخميني المقربين في ذلك الوقت: أبو الحسن بني صدر وإبراهيم يزدي. وكانت الرسالة من الرئيس جيمي كارتر رسالة دعم لآية الله وثورته الإسلامية.

وعندما انهار نظام الشاه كانت الإشارات الأولى مشجعة بالنسبة لكارتر. وضمت أول وزارة للخميني، ترأسها مهدي بزركان، خمسة وزراء كانوا قد هاجروا إلى الولايات المتحدة من إيران وأصبحوا مواطنين اميركيين.

ورأت إدارة كارتر في الثورة الخمينية أول خطوة باتجاه خلق ما وصفه زبيغنيف بريجنسكي، مستشار الأمن القومين، باعتباره «حزاما إسلاميا اخضر» حول الاتحاد السوفييتي.

وكانت الفكرة انه بمرور الوقت يمكن أن يصبح «الحزام» أنشوطة بوسعها أن تخنق، عند سحبها، الامبراطورية السوفييتية.

وبعد ثمانية أشهر من استيلاء الخميني على السلطة التقى بزركان ببريجنسكي في الجزائر، وحصل على وعود بمساعدة اميركية، واستئناف الإمدادات العسكرية، في سياق مشاعر معاداة الشيوعية المشتركة. وقام بريجنسكي بإبلاغ كارتر بأن بزركان هو «رجل يمكن أن نتعامل معه».

غير انه بعد أيام قلائل أغارت مجموعة من المتطرفين على السفارة الأميركية في طهران، واعتقلت الدبلوماسيين كرهائن داخل السفارة. وطرد بزركان ويزدي، الذي كان وزيرا للخارجية في حينه، من منصبيهما ولم يعودا إلى السلطة قط. وكانا أول ضحيتين للعنة «الحديث إلى الولايات المتحدة» ولكنهما لم يكونا الأخيرين.

والبطل الجديد في «الحديث مع أميركا» هو صادق قطب زادة، وهو مغامر أصبح مرتبطا بالخميني في المنفى. وعندما شغل منصب وزير الخارجية فتح قناة سرية مع كارتر والتقى بمبعوثه هاملتون جوردن في باريس، حيث ناقشا شراكة استراتيجية ضد الاتحاد السوفييتي. إلا أن قطب زادة طرد من منصبه، وحكم عليه بالإعدام بناء على أوامر الخميني ونفذ فيه الحكم.

والبطل الثاني في «الحديث مع أميركا» هو صادق طباطبائي وهو شقيق زوجة ابن الخميني أحمد. وهو رجال أعمال و«غندور». وهذا الصادق الثاني كان النجم الصاعد في سياسات الخميني لعدة شهور، قبل أن يختفي هو أيضا. وبعد تعرضه للعنة «الحديث مع اميركا» لم يستعد حظوظه السياسية، وانتهى به الأمر في المنفى الذهبي.

وفي الوقت ذاته طرد بني صدر، الذي تأثر هو أيضا بـ«الحديث مع أميركا» من قبل الخميني كرئيس للجمهورية الإسلامية، واضطر للهرب إلى باريس على متن طائرة مخطوفة.

وانتقلت مسؤولية «الحديث مع أميركا» إلى عباس أمير انتظام الذي كان نائبا لبزركان.

وخلال عمله كسفير للخميني في السويد، فتح قناة سرية مع الأميركيين، وحاول حل المشاكل الثنائية عبر المفاوضات. وقد استدعاه الخميني وألقى به في السجن، حيث قضى ربع قرن، وأصبح أقدم سجين سياسي في العالم.

والضحية الأخرى لـ«الحديث مع أميركا» هو بهزاد نبوي، الذي كان نائبا لرئيس الوزراء، وتفاوض حول الإفراج عن الرهائن الأميركيين مع مساعد وزير الخارجية الاميركية ووارن كريستوفر في الجزائر. وعلى الرغم من أن نبوي حصل على اتفاق جيد للنظام، فإن الحقيقة هي أن حديثه مع الاميركيين كان كافيا لتحطيم حياته المهنية. فقد منصبه، وجرى تهميشه حيث أصبح معارضا مخلصا للنظام منذ ذلك الوقت.

وتعرض مير حسين موسوي خامئني مهندس الديكور لمصير مماثل كرئيس للوزراء في الثمانينات. فعبر واحد من مساعديه عباس كانغارلو، فتح موسوي قناة سرية مع واشنطن، وحقق بعض التقدم عندما سحب الخميني البساط من تحت قدمه. وجرى إلغاء منصب رئيس الوزراء، وطرد موسوي من الحكومة للأبد.

وتمكنت بعض الشخصيات الخمينية من تجنب عواقب لعنة «الحديث مع أميركا» بلوم الآخرين.

وكان هاشمي رفسنجاني، رجل الأعمال الذي أصبح رجل دين وأرسل ابنه مهدي لإجراء محادثات مع الاميركيين في واشنطن، حاذقا عندما زعم انه كان فقط يريد استكشاف قنوات واشنطن السرية مع الآخرين، بمن في ذلك آية الله حسين علي منتظري.

عندما أرسلت إدارة ريغان وفدا سريا، ضمن اميرام نير من جهاز الموساد، إلى طهران برئاسة روبرت ماكفارلين، أمر رفسنجاني قربان علي دوري نجف ـ عبادي، وهو رجل دين موال له، للاهتمام بالضيوف، وتفادى بذلك المشاركة بصورة مباشرة.

وعندما كشف النقاب عن السر بواسطة عملاء منتظري في لبنان، شارك رجال الدين في صراع مفتوح أدى إلى إحداث هزة في نظامهم. خسر منتظري وحُرم من السلطة وأبقي رهن الاعتقال المنزلي.

وفي بعض الأحيان كان مجرد الاقتراح بإجراء محادثات مع الولايات المتحدة، يؤدي إلى خسارة الشخص مستقبلا مهنيا واعدا، مثل آية الله عبد الله نوري، الذي يقال عنه انه رجل الدين الأكثر أمانة في معسكر الخمينيين، وعمل وزيرا للداخلية مرتين. إذ أقصي نوري عندما تقدم باقتراح للتوصل إلى اتفاق مع الولايات المتحدة من خلال التفاوض. جرى اعتقال نوري وأودع السجن وتعرض للتعذيب، وأطلق سراحه، ثم وضع قيد الإقامة الجبرية، وابعد من النخبة الحاكمة.

الرئيس الإيراني السابق محمد خاتمي، الذي شغل منصب الرئاسة من 1997 حتى عام 2005، يعتبر مثالا آخر. فعن طريق جياندومينيكو بيكو، وهو دبلوماسي إيطالي مرموق، فتح خاتمي قناة مع الرئيس بيل كلينتون، وأقنع الأميركيين بتخفيف العقوبات على إيران، وكال المدح لتاريخ وثقافة إيران، لكنه عندما تذكر انه من المحتمل أن يكون ضحية للعنة، تراجع عن الاتفاق الذي ابرمه بيكو، وحاول أن يغطي على نفسه من خلال الإدلاء بأحاديث معادية للولايات المتحدة.

منذ استيلاء الخميني على السلطة، ظلت إيران تعاني من حالة انفصام. إذ أن هناك إيرانين، إيران كدولة قومية لا مشكلة لديها في اتباع القنوات الدبلوماسية في مشاكلها مع الدول، بما في ذلك الولايات المتحدة، فيما لا تستطيع إيران كقضية وكوسيلة للخمينيين التفاوض، دعك عن التسوية مع أية جهة.

سنسمع المرة القادمة من يدعو إلى إجراء محادثات مع إيران، وعند ذلك سيبرز السؤال: «أي إيران؟».