قلدوا الديمقراطية تجدوها

TT

كتب لي أحد الأصدقاء معلقا على مقالي الأخير، حول التجربة الديمقراطية الموريتانية التي تستأثر هذه الأيام بواجهة الإعلام العربي «لم تستطع أن تفسر في مقالك، لما تميزت موريتانيا بهذه التجربة الفريدة، رغم فقرها وتخلفها وكثرة مشاكلها. ولم تقل لنا هل هي قابلة للاستمرار، وهل يمكن لمجتمعكم الهش أن يدفع ثمن هذا التحول الجذري».

كتبت للصديق منبها إياه، على أنه انطلق في سؤاله من مصادرة عادة ما تؤسس النظرة التشاؤمية للتحول الديمقراطي في البلدان العربية، وهي ضرورة توفر شرطين موضوعيين رئيسين هما:

مستوى الدخل الاقتصادي ونسبة التمدرس والتعلم، وربما أضاف إليهما البعض درجة تجذر الدولة المركزية، والانسجام القومي والثقافي.

ونلمس هذه الأطروحة مبثوثة في الأدبيات التنموية، والدراسات الاجتماعية، ولها أدلة جلية لا تحتاج لبيان.

وقد نظر دوما للتجربة الهندية بأنها تشكل استثناء من هذه القاعدة، فسره البعض بعوامل ثقافية، لها علاقة بطبيعة الديانة الهندوسية والنظام الاجتماعي، الذي كرسته وإن كانت هذه الأطروحة متجاوزة اليوم في الدراسات الاجتماعية السياسية.

بيد أن نجاح العديد من تجارب التحول الديمقراطي في إفريقيا السوداء في العقدين الأخير، قد فرض على الباحثين مراجعة هذه الأطروحة التي فندتها الوقائع العينية.

فحسب المعطيات التي نشرتها مؤسسة بيت الحرية الأمريكية، يمكن أن تطلق على ثماني عشرة دولة أفريقية صفة «البلد الديمقراطي» بحسب المعايير الدولية المعروفة (دستور وقوانين تكفل الحريات العامة ـ حرية تنظيم وتعبير فعلية ـ إعلام حر غير مقيد ـ انتخابات شفافة ونزيهة تضمن التداول السلمي على السلطة).

وإذا استثنينا جمهورية جنوب إفريقيا ذات الوضع الخاص، نجد أن هذه البلدان التي نجحت في امتحان التحول الديمقراطي تتشابه من حيث الوضعية الاقتصادية والثقافية، وتصنف إجمالا في خانة الدول الفقيرة، كما أنها حديثة النشأة وكثيفة التنوع العرقي والديني.

فلماذا نجحت هذه البلدان في ما أخفقت فيه الدول العربية، التي هي في غالبها من البلدان المتوسطة الدخل، ومنها الأقطار البترولية الغنية، ولبعضها ارث طويل في المركزية والاستقرار السياسي؟

يرى البعض أن خصوصية التجربة الإفريقية عائدة إلى عاملين اثنين، هما من جهة فشل الكيان المركزي في احتواء التناقضات القومية والدينية، مما فرض اللجوء للنظام الديمقراطي لإدارة الصراعات القائمة، ومن جهة أخرى انكشاف هذه البلدان أمام الضغط الخارجي (الغربي) الذي أخذ منذ نهاية الثمانينات شكل ربط العون الاقتصادي بالإصلاحات السياسية.

وعلى الرغم من أهمية هذين العاملين، إلا أنهما غير كافيين في تفسير ظاهرة «الديمقراطية الأفريقية».

لقد كشفت أبحاث فرانسوا يايار وآشيل مبميه وريتشاد بنغاس، التي تعرضت لهذه التجربة ان مصدر نجاح الديمقراطية الإفريقية، هو أولا وقبل كل شيء إعادة تشكل المخيال السياسي، وفق قيم التعددية والمنافسة السلمية على السلطة.

فالآلية الانتخابية من دون التجذر في الأرضية الرمزية العميقة للفعل السياسي تغدو هشة عاجزة عن التأثير النوعي في موازين القوة السياسية.

فالديمقراطية كما هو معروف، تقتضي قيام مجال عمومي تضبطه قيم التسامح والحرية التي ليست بالضرورة نتاج ديناميكية تنوير وتحديث جذرية، بل هي قابلة للاستيعاب في أي مخزون ثقافي (كما أثبتت أبحاث ودراسات الفيلسوف وعالم الاقتصاد الهندي آمارسي سن الحائز جائزة نوبل).

ولقد أضاع الفكر السياسي العربي وقت طويلا في النقاش العقيم حول إشكالية ارتباط الديمقراطية بالتحديث الفكري والعقدي، مما ولد اطروحتين خطيرتين معيقتين للتحول الديمقراطي هما: إما اشتراط الوعي التحديثي والتقدم الفكري للتأهيل للديمقراطية التعديدية أو رفض النموذج الديمقراطي الكوني، بحكم مرجعيته الغرسة وعدم تلاؤمه مع الخصوصية المحلية.

فما حدث في السياق الإفريقي، هو ما عبر عنه أحد الباحثين بترويض المسلك الديمقراطي أو إدماجه في التقليد الثقافي والمجتمعي القائم، من خلال استراتيجية نقل دلالية واسعة، لا تتصل ضرورة بعملية التحول الاجتماعي، تبين أن القنوات المفهومية للأحادية والاستبداد، يمكن أن تستخدم لتمرير النسق الدلالي والفكري المغاير.

ومن الطبيعي أن تسهم الميكانيكا الديمقراطية الشكلية (النظم والانتخابات) في بلورة هذا النسق الدلالي، وانبثاق هذا المتخيل الرمزي.

فما لا يدركه الكثيرون هو أن حالة الاستبداد العربي الراهن لا تفسر بعوامل ثقافية موروثة، حتى ولو كان في ثقافتنا موروث استبداد، بل هي تعبير عن جانب من جوانب ثقافة الاستبداد الحديث، التي تنتمي لنفس الإطار المرجعي للفكر الديمقراطي.

في مطلع التسعينات أصدر الباحث اللبناني المرموق غسان سلامة مع آخرين، كتابا مهما بعنون تساؤلي:

«ديمقراطية من غير ديمقراطيين» ـ صدر عن مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت ـ بيد أن ما لم يدركه الباحثون الجادون في عواتق التحول الديمقراطي في العالم العربي، هو أن الحلقة المفقودة ليس وجود ديمقراطيين يطالبون بالحريات العامة ويدافعون عنها، وإنما قيام فضاء رمزي يستوعب قيم التعددية السياسية. والمفارقة القائمة هي أن هذا الفضاء عادة ما يتولد من عملية المحاكاة الشكلية للديمقراطية التعددية.