حتى دكاكين الحلاقين

TT

اعلنت ليبيا انها سوف تعيد «بعض» الأراضي التي أممت بعد «عودة الفاتح» الى اصحابها. وكانت مصر 23 يوليو اول من اطلق موجة التأميم في العالم العربي، ثم اعادت على مدى سنوات معظم الاراضي المصادرة، ومنها، كما ذكرت «الاهرام العربي» قبل ثلاث سنوات، اراض اعطيت «مكافأة» للعسكريين الذين قاتلوا في اليمن، ثم استعيدت منهم برغم الاحتجاجات القضائية والالتماسات العاطفية.

وعندما اممت ثورة 23 يوليو كان في مصر فقر كثير وظلم كبير للفقراء والفلاحين. لكن التأميم كان عشوائيا منسوخا بحيث شل الحركة في البلاد وأحدث الحاجة، خصوصا بالنسبة الى القمح. وفي مرحلة كادت تحدث مجاعة لولا ان الاتحاد السوفياتي حول شحنة كبرى من القمح الى الاسكندرية، بعدما كانت في طريقها الى سري لانكا (سيلان، آنذاك).

طبيعة الثورات انها تثور وبعدها تفكر. ويتأثر اصحابها بأفكار قد لا تنطبق دائماً على واقعهم. وفي العام 1959 جاء الى مصر ثائر كان يسحر جمال عبد الناصر والعالم اجمع، يدعى تشي غيفارا، لدراسة عملية الاصلاح الزراعي. وطرح غيفارا على الزعيم المصري سؤالا غريبا.

كم هو عدد المصريين الذين ارغموا على مغادرة البلاد منذ قيام الثورة.

واجاب عبد الناصر «العدد قليل، ومعظمهم من المصريين البيض». اي حاملي الجنسيتين. ان هدفنا هو تصفية الامتيازات وليس الافراد.

واعرب غيفارا عن خشيته: هذا يعني ان ثورتكم لم تحقق الكثير. انني اقيس عمق التحول بعدد الذين يتضررون ويشعرون انه لم يعد لهم مكان في المجتمع الجديد. وتأثر الزعيم الراحل بكلام غيفارا ووسع عمليات التأميم. ثم عاد فالتقاه للمرة الاخيرة العام 1965 وذهل بالتحول الذي طرأ عليه.

وراح يصغي بدهشة فيما غيفارا يجري عملية نقد ذاتي للثورة الكوبية: «لقد ارتكبنا الكثير من الاخطاء. والكثير من هذا الكثير كان مسؤوليتي. لقد اممنا 98% من كل ما عثرنا عليه، بما فيه دكاكين الحلاقين. والآن نكتشف انه كان علينا ان نبقي بعض القطاعات خارج التأميم. نعثر على من يقوم بتشغيل المصانع. والثوار فقدوا حماسهم وغرقوا في النساء وفي الفساد. وقد عثرنا في منزل احدهم على 17 جهاز تلفزيون».

كان الفلاحون وعائلاتهم يشكلون ثلثي الشعب المصري. وكان بعضهم يتقاضى سبعة قروش عن عمل شاق في مزارع الباشاوات. ومصر الزراعية تضيق بأهلها الذين راحوا يزحفون على القاهرة. وقد اراد عبد الناصر القادم من قرية في الصعيد (هو وعامر والسادات وبعض الضباط الاحرار) ان يغير في صورة الظلم. لكنه تنبه متأخرا الى ان معظم القرارات اتخذت دون دراسة. وان غيفارا لم يقدم وحده على الحماس الذي يسبق التفكر.