القمة العربية: الخيارات المتاحة.. وأوراق مهيأة للاستثمار

TT

72 ساعة تفصل بيننا وبين (قمة الرياض العربية).. وتبدأ باستعراض الخيارات الكبرى فنقول: بين يدي هذه القمة: الخيارات الرئيسية التالية:

1 ـ خيار اتخاذ قرار جماعي بـ (الهجرة الجماعية) من الوطن العربي: تحت وطأة التحديات العصيبة الراهنة.. وهذا خيار معناه: التولي يوم الزحف، بل اهدار الوجود والحياة بالغاء مبدأ التمكن في الارض للدخول في التيه. ليس لمدة اربعين سنة كما فعل بنو اسرائيل، وانما لامد مطلق غير محدد. ثم هو خيار غير مستطاع، لانه غير عملي. فالعرب لو قرروا الهجرة من وطنهم، فلن يرحب بهم احد في وطنه. فأوعية الهجرة الفردية قد ضاقت ايما ضيق، فكيف بالهجرات الجماعية؟!.

2 ـ خيار (البقاء في المكان)، مع اجترار الخوف والعجز والنواح. وهذا خيار يزيد البلاء والكرب، ويخدم الاعداء الذين لا يريدون لهذه الامة العربية خيرا ولا تقدما. ذلك ان تلك النقائص الثلاث: تهبط بالمقدرة العقلية والارادية الى ما دون القاع. ويترتب على ذلك عمى شديد في الرؤية والقرار، وشلل مهلك في العمل والبناء. وهذا كله (افضل) مناخ لتحقيق اهداف الذين عجزوا ـ لاسباب كثيرة ـ عن تحقيق اهدافهم بالحروب الدامية.

3 ـ خيار (الاسترخاء)، وهو ـ كذلك ـ اوسع مساحة لتنفيذ المزيد من خطط الضغط والتعطيل والتخذيل والتفشيل. وهل تنفذ الاستراتيجيات والسياسات الشريرة إلا والامة في أسوأ حالات (الرخاوة): العقلية والارادية والعملية.. ان التاريخ الموثق يدلي بشهادته فيقول: ان هزائم الامة وخيباتها العسكرية والسياسية والحضارية: لم تقع الا في ازمنة التثاؤب والاسترخاء: استرخت فسقطت الاندلس.. استرخت فاجتاحها التتر.. استرخت فغزاها الصليبيون.. استرخت فاحتلها الاستعمار.. استرخت فتمكنت الصهيونية من فلسطين.. استرخت علميا فسبقتها امم اخرى: استرخت اليوم، فاشتد التحرك الساعي الى خذلان قضاياها، والاضرار بمصالحها والنيل من خياراتها: العقدية والثقافية والحضارية.

4 ـ خيار (الثبات في الموقع): على نحو ارسخ من ثبات الآخرين. فإذا كان قد قيل ـ مثلا ـ: ان اسرائيل وجدت لتبقى، فإن المقولة الزائدة عليها في القدر، والمضادة لها في الاتجاه هي: ان العرب وجدوا قبل اسرائيل في هذه المنطقة، وانهم سيبقون بعدها: إذا كان لا بد من الحديث عن المآلات البعيدة.

5 ـ خيار (التصميم على التفوق) أبدا: في كل مجال. بيد ان لهذا الخيار متطلباته الموضوعية، ومقتضياته الجادة وهي ـ في ايجاز ـ تكوين (رؤية امنية وسياسية واقتصادية وتعليمية وثقافية وحضارية متكاملة وجد واضحة بل متألقة)·· ويشترط في هذه الرؤية: ان تكون علمية غير جاهلة، وعقلانية غير عاطفية، وواقعية غير خيالية، ومفصلة غير مجملة. بمعنى ان تنتظم هذه الرؤية (عناصر النهوض) كافة، ولا تركز ـ فحسب ـ على الجانب السياسي، أو العقدي، أو الاقتصادي، أو التعليمي.

والخيارات: الرابع والخامس (الثبات في الموقع والتصميم على التفوق) هما اللائقان بأمة تريد أن تحيا، لا أن تنتحر، وتستقر لا أن تهاجر، وتتفوق لا أن تنحدر وتنحط، وتنشط لا أن تسترخي، وتستبشر لا أن تلطم وتنوح.

وهذان الخياران يرقان إلى مرتبة (الضرورة) العقلية والعملية.. ومن تعريفات الضرورة انها هي (الأمر أو الموقف الذي إذا لم يباشره المرء أو الأمة: هلك أو هلكت).

هناك (الضرورة الوطنية).. وليس المفهوم الأمة أي دلالة عملية أو وجودية في غياب البنى الوطنية. فالأمة الكبرى إنما هي (حاصل جمع أوطان).. وتمثل الضرورة الوطنية في المحافظة الحازمة على (الموجود الوطني): معنوية ومادية.. وعلى درجة الاستقرار التي لا بد منها.. وعلى مستوى من النمو متصاعد النسب باطراد.. وعلى الوحدة الوطنية، فلن يفلح قوم ـ في أي حقل ـ أمرهم فرط، وصفهم ممزق.

هناك (الضرورة القومية). فالتحديات الكبيرة الضاغطة الراهنة والمستقبلة ـ: لا يستطيع أن يواجهها أحد أو وطن بمفرده. بل تتطلب مواجهتها تجمعا وتكتلا وتضامنا.. وليس يماري عاقل في ان الأمة العربية تواجه اليوم تحديات كبرى، ندر أن واجهت مثلها في تاريخها من حيث تعدد الأزمات، وتنوع المشكلات وتزامنها. ولسنا من الخياليين الذين ينادون بـ (وحدة ناجزة): اقتصادية وسياسية، وبحلف عسكري كامل. ولكن إذا صعب تحقيق (المثال)، فمن المستطاع تحقيق الحد الأدنى من التماسك.. وإنما يوقف التدهور الشاخص: باستحضار الوعي بخطط الذين بنوا بقاءهم، ورتبوا مصالحهم على فرقة العرب، وشتات صفهم.. وعلى عجل نقول: إن مما يدخل في صميم الحد الأدنى من التماسك: الالتزام الحقيقي بعدم التدخل في الشؤون الخاصة للآخر.. وفطم اللسان عن الهجاء الإعلامي، وتسوية المشكلات بروح الرجال الكبار، وسد الأذنين، وجميع حواس المعرفة دون النفخ الأجنبي أو الخارجي.

ان كل الطرق موصدة، وليس هناك إلا طريق واحد مفتوح وهو: طريق (التطلع إلى الأمام)، وإلا التقدم الملموس الذي يحيل الى التطلع الى واقع مستقبلي حي. فالوقوف خسران وخيبة.. والحركة الدائرية البطيئة المكررة: موت بالتقسيط.. أما التراجع فهو قفز بالظهر الى الهاوية وسقوط سريع فيها.

ومن هنا، ليس أمام مؤتمر القمة العربية إلا التقدم الى الأمام لأجل تلبية (الضرورات الوطنية والقومية).

أ ـ لأن القضايا التي يعالجها المؤتمر لا يصلح لها إلا الامتلاء بالشعور بالجد، وإلا الاحساس العظيم بالمسؤولية، فلا عبث ـ ثم ـ ولا تثاؤب، ولا تناول لهذه القضايا بربع عقل، وربع اهتمام، وربع إخلاص.

ب ـ لأن الفشل في المؤتمر سيؤكد نظرية (تمثل خطرا جديا على الأمن الوطني والقومي)، سيؤكد نظرية أو مقولة ان العرب قوم تافهون، لا يحسنون التفكير، ولا يحسنون الفعل، ولا التنسيق، ولا العمل بـ (روح جماعية). وإنما ينجح المؤتمر بشرطين أساسيين:

1 ـ شرط استحضار العقل والمصلحة ووضوح الرؤية وقوة الإرادة وصدقها.

2 – شرط (تجميع الأوراق المهمة واستثمارها).. والأوراق كثيرة، نمثل لها بـ:

أولاً: ورقة الثقل أو الوزن الذي (ينفع ويضر). بمعنى (القوة العربية) التي ترسخ في وعي الناس في عالمنا هذا: ان العرب يمكن ان ينفعوا، ويمكن أن يضروا. وهذه ورقة حاسمة في عالم ضعيف الاخلاق، مريض الضمير ـ ولا سيما في المجال السياسي ـ فهو عالم يتحرك بدوافع الخوف على مصالحه، أكثر مما يتحرك بالأريحية والعدل والسمو الخلقي. فحين يقال: (الوطن العربي)، فإنه ينبغي تفصيل هذا المجمل ـ بالاحصاء الكمي ـ بمعنى أن الوطن العربي يشمل 22 دولة تنتظم أكثر من ثلاثمائة مليون إنسان ينتشرون فوق مساحة تبلغ 15 مليون (كلم) مربع: تتمدد في قارتين كبيرتين هما: آسيا وافريقيا، وهي مساحة ملأى بالطاقات المتنوعة: طاقة النفط.. وطاقة الشمس.. والطاقة الروحية.. وطاقة الماء (!!).. فالعرب يطلون على انهار وبحار شتى: يطلون على البحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط، وانهار النيل ودجلة والفرات، والخليج العربي، والمحيط الأطلسي.. إلى غير ذلك مما يملكه العرب من قدرات وطاقات.. وبالمقارنة يتبين أن الوطن العربي هو (القوة الاستراتيجية والعددية الثالثة) في العالم.. القوة العددية التي تنافس الولايات المتحدة وأوروبا على ذات (الرقم الكمي): بعد رقمي: الصين والهند.. والمفهوم المستنبط ـ ها هنا ـ هو: ان العرب قوة يمكن ان تنفع وأن تضر. وهذه ورقة جد مهمة لو أحسن استثمارها بعقلانية وجد.

ثانيا: ورقة ربط (الأمن الوطني) بـ(الأمن القومي) وهو ربط يوجب التحرر العاجل والكامل من ذهنية (ما دمنا سالمين في وطننا فلا يهمنا ما يحدث لمن حولنا). فهذه ذهنية منقوضة بالحالة الفلسطينية. فقد تبين عبر ستة عقود: انه لا استقرار ولا أمن ولا سلام إقليمي وطيد لأي وطن عربي ما دام في فلسطين صراعات وزلازل.. ثم هي ذهنية منقوضة بالواقع العراقي. فما يجري في العراق اليوم يؤثر ـ سلبا وبعمق ـ على أمن كل دولة عربية في الإقليم.

ثالثاً: ورقة المكاسب الملموسة التي يثمرها (الاستقلال في الرؤية والقرار والمواقف).. والنموذج الحي، أو البرهان العملي على ذلك هو (اتفاق مكة) الذي حسم الفتنة الدامية بين الفلسطينيين، وأسس لمرحلة جديدة للقضية الفلسطينية كان أول ثمارها: حكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية.. لقد تحركت المملكة العربية السعودية باستقلالية في الرؤية والموقف، ومن ثم تحقق هذا المكسب الكبير.. وهذه ورقة رابحة ومهمة بين يدي القمة، ورقة تقول للقادة المجتمعين في الرياض: بقدر رؤاكم وتوجهاتكم وقراراتكم المستقلة، يكون نجاحكم في عملكم الوطني والقومي.

رابعاً: ورقة (مأزق القوى الدولية).. وتتمثل ربحية هذه الورقة في أن القوى الدولية الفاعلة تحتاج هي نفسها إلى (إنقاذ) أي إلى التفكير من أجلها لكي تخرج مما تعانيه من كرب وبلاء وحرج وخسائر وسوء صورة وسمعة.. وهذه (الحاجة) التي لا ريب فيها تنقل العرب من حالة (المتلقي الآخذ) إلى مرتبة (المشير المعطي).. وتتمة هذه النقطة: ان الشورى الصادقة المنقذة تتطلب (بسالة) في التفكير والموقف، وإلا فكم من رأي صحيح مفيد: حجبه الخوف والتردد.

خامساً: ورقة (التسلح بالحذر الكامل من مغامرات عسكرية جديدة في المنطقة)، فلئن كانت تلك القوى الدولية في أشد الحاجة للمساعدة والإنقاذ، فإن رفض مغامراتها العسكرية: خدمة جليلة للذات.. ولها.. فكل مغامرة عسكرية جديدة يجب أن تفهم بأنها زلزال يضرب الأمن الوطني والقومي، ويشل حركة النماء والنهوض والترقي. وهذا الفهم يؤدي إلى رفضها بحسم.. وهذه ورقة جد مهمة.

سادساً: (ورقة (تهافت المنطق الاسرائيلي). فطالما تباهت إسرائيل بقوة منطقها وتهافت المنطق العربي تجاه السلام.. لقد تبدل الوضع الآن، وأصبحت إسرائيل هي (جبهة رفض السلام). وهذا الموقف العدمي هو الذي أدى – مثلا – إلى التصدع الدولي النسبي في الحصار الظلوم المفروض على الشعب الفلسطيني.. وهذه ورقة جيدة ينبغي استثمارها بذكاء ونجاح.

سابعاً: ورقة (كسر التخويف بالشعوب). فقد بنت قوى معروفة استراتيجيتها على تخويف الحكام من شعوبهم!! أي من تثوير شعوبهم عليهم.. هذه الورقة يجب أن تحرق بمنطق موضوعي وهو: أن الشعوب العربية تقف في خندق واحد مع حكامها الصادقين ضد مخططات التخذيل والتعطيل التي تستهدف الشعوب والحكام جميعا.ً