ديموقراطية الضرائب.. بين أحلام الخلافة ومغامرات حرق القصر

TT

يوم الاربعاء 21 مارس، كان اهم ايام المفكرة في بريطانيا، حيث قدم وزير المالية مشروع الميزانية للبرلمان للتصويت.

وكغيري من الملايين دافعي الضرائب، أسرعت الى موقع (من عشرات المواقع المخصصة على الانترنت) لوضع أرقام تعكس أوضاعي المالية وديوني الكثيرة في استمارات مبرمجة لحساب مكسب أو خسارة المواطن جراء تطبيق الميزانية الجديدة.

هذه الحسبة، اصبحت تقليدا سنويا للملايين منذ انتشار الكمبيوتر (وقبلها كان الناس يتجمعون في الحانات بالآلات الحاسبة اليدوية، مهتدين بتفاصيل منشورة في الصحيفة المسائية).

المواطن ينتظر يوم الميزانية بأعصاب مشدودة لأنه، كدافع ضرائب، هو الممول الاساسي، وغالبا الوحيد، لميزانية الحكومة للسنة المالية (وتبدا هنا من 6 ابريل حتى 5 ابريل العام التالي).

ولا توجد ديموقراطية حقيقية اليوم في الكون من دون نظام ضرائبي متكامل يتعاقد فيه دافع الضرائب ـ كصاحب عمل ـ عبر صناديق الاقتراع مع الحكومة، كموظف او خادم عنده لمدة اقصاها خمس سنوات (عمر مجلس العموم المنتخب وفق التقاليد البرلمانية، فلا يوجد في بريطانيا دستور مكتوب)، في نهايتها اما يجدد المخدوم اي دافع الضرائب العقد، اذا اعجبه اداء الموظف، أي الحكومة، أو «يرفدها» بفسخ العقد ليتعاقد مع حكومة اخرى تعرض خدماتها علنا في «الفترينة» السياسة، وتعرف بحكومة الظل.

حكومة الظل جاهزة ـ في مقاعد المعارضة ـ بمجلس وزراء كامل، وسياسات خارجية وداخلية ودفاعية واقتصادية كاملة، وبأرقام إحصائيات يتيح قانون حرية المعلومات لأي شخص في العالم، مراجعتها في سجلات ومواقع الوزارات.

فمقابل تقديم وزير المالية جوردون براون، مشروع ميزانية الحكومة، جهز وزير مالية الظل جورج اوزبورن، ميزانيته. تفاصيلها متاحة في كتيبات الحزب وموقعه ليفاضل دافع الضرائب بينها وبين ميزانية الحكومة يوم الاقتراع.

رنين النقود لاعاطفة له، فمواطن الأمم الديموقراطية يفكر بعقله ليدرس لوني كشف الحساب الشخصي، الأسود لأرقام الدخل والمصروفات بالحبر الأحمر؛ ويلاحظ الخدمات المتاحة من مواصلات وتعليم أولاده ورعايتهم صحيا وتنظيف شارعه مقابل ما يدفعه من ضرائب.

المعارضة لا تجرؤ على خداع دافع الضرائب باللعب على عواطفه بشعارت كـ«الاسلام هو الحل» أو كـ«محاربة الفساد» فقط، أو «تطبيق تعاليم ديننا بحذافيرها السلفية كبرنامجين سياسي واقتصادي»، أو كـ«برنامجنا الاستمرار في الجهاد والاستشهاد لتحرير الوطن» وغيرها مما يستحيل ان يستبدلها الناخب، المسحوب من اطراف عواطفه، برغيف خبز، أو مقعد في اتوبيس يوصله الى محل عمله.

فاجأ براون المحافظين بسرقة ملابسهم «السياقتصادية»، باعتبار ان الميزانية في ديموقراطيات السوق الحر المفتوح هي السياسة الرسمية لإدارة اقتصاد الأمة؛ بإنهاء خطاب الميزانية، بقنبلة تخفيض ضريبة الدخل الأساسية بنسبة (2%) من 22% الى 20%.

ليست فقط المرة الاولى منذ 75 عاما التي تخفض فيها ضريبة الدخل 2% دفعة واحدة، وإنما غياب سابقة تخفيض وزير المالية ضرائب الدخل (أو سعر فائدة الاقراض الاساسية) في غير عام الانتخابات، التي تجرى عادة في مايو، بعد تقديم مشروع الميزانية بسبعة اسابيع.

والانتخابات العامة موعدها 2010.

انتشل زعيم المعارضة دافيد كاميرون نفسه من مفاجأة براون بلطم الحكومة بتناقص شعبيتها 15%، عن المعارضة، واتهمه بسرقه ثياب المحافظين؛ فتخفيض ضريبة الدخل تقليديا حكر المحافظين.

انتزاع كاميرون زمام الجدل من براون بقوله «نشكر وزير المالية لتبنيه مقولتنا بأنه يمكن للأمة، اقتسام فائض زيادة معدلات النمو بين تخفيض الضرائب، والانفاق على الخدمات من دون الاخلال بالميزانية»، يعتبر درسا في فن الجدل البرلماني. فالعمال، بأصولهم الاشتراكية، طالما جادلوا بأن سياسة المحافظين في تخفيض الضرائب لا يمكن تمويلها الا باستقطاع ميزانية الخدمات.

براون عرف صحافيا بلقب المستشار الحديدي (وزير المالية يسمى المستشار chancellor ) تشبيها باوتو فون بسمارك ـ 1815 ـ 1898 ـ المستشار الحديدي الذي وحد المانيا، وغالبا ما تجاهل التقاليد الديموقراطية ورشا الصحافيين لتحقيق اغراضه. ظل براون حذرا واخذ على الناس بالتقطير الشديد، لكن ميزانيته الأخيرة مقامرة تزيد من مديونية الحكومة، اقدم عليها، ليس كوزير مالية بل كرئيس وزارة يتطلع لخلافة توني بلير في المنصب في غضون اشهر قليلة.

عشية اعلان الميزانية، اللورد تيرنبول كبير سكرتيري الخزانة الدائمين السابق (كموظف تبع التاج وليس سياسيا يتبع الحكومة) شبه براون بالديكتاتور الراحل جوزيف ستالين ( 1878 ـ 1953) في ادارته للمالية وفي تعامله مع مجلس الوزراء.

الصراع الداخلي بين انصار بلير وانصار براون، هو اشهر سر معروف لشارع الصحافة منذ 1997.

البليريون يسمون براون «المدام R» نسبة الى الحرف الاول من المسز روتشيستر، الشخصية الغامضة في كلاسيكية تشارلوت برونتي (1816 ـ 1855) «جين اير». المسز روتشيستر معزولة في برج وحيد في القصر، تصرخ في تجوالها الليلي بانتظار فرصة لحرق القصر بعد ان ضاعفت العزلة والاحباط من جنونها.

البراونيون ضخموا من هوس صاحبهم باحقيته في زعامة العمال التي «سرقها» بلير بتحويله دفة سفينة الحزب نحو مهب رياح المحافظين، ولذا يشارك المحافظون البليريين الاعتقاد بأن عزلة براون واحباط 10 سنوات، ستدفعه لحرق القصر كما فعلت مدام روتشيستر، فور اطلاقه من عزلة برج رقم 11 داوننج ستريت المجاور لمكتب بلير.

ميزانية براون اذن ميزانية انتخابات، لكنها الانتخابات الداخلية لزعامة الحزب الحاكم لتولي الوزارة، لطمأنة حراس البرج بأنه سيحمل المشعل لإضاءة ردهات السياسة وليس لاحراق القصر.

رئيس الحكومة مضطر للتعامل مع العالم الخارجي، ومهارات براون الدبلوماسية لم تختبر. انتخاب زعيم جديد، حسب لوائح الحزب، يستغرق سبعة اسابيع، تتخلها عطلة البرلمان والطبقة السياسية، فاستقالة بلير متوقعة في مايو.

اذا كان براون المرشح الوحيد، سيدعو المجلس التنفيذي الاعضاء الى مجرد تصويت ثقة affirmative ballot. لكن المتمسكين بالديموقراطية الحقيقية، كوزير الداخلية السابق تشارلز كلارك، ووزير المعارف الان جونسون، يقولون «لاتوريث» في الديموقراطية.

ولا يستطيع بلير، مهما كانت شعبيته وانجازاته، ان يجعل من حكومة دولة عريقة «تركة» يورثها لمن يشاء. ولذا يطالبون بالتحدى والتنافس بين مرشحين داخل الحزب كل منهم يقدم برنامج سياسي واقتصادي يختار منه الاعضاء، خاصة أن أي مرشح يشترط ان يكون اصلا برلمانيا منتخبا، اي مفوضا من الشعب.

الانتخابات تتم وفق «كلية انتخابية» مشكلة بنسب اصوات مركبة من نواب البرلمان العماليين، واعضاء اللجان الحزبية في القواعد، والنقابات العمالية المرتبطة بالحزب، لاختيار زعيم ونائبه. ومما يعرض براون للمنافسة ان استطلاع للرأي (واستطلاعات الرأي في بريطانيا هي وقود القاطرة الديموقراطية) عشية الميزانية اشار الى تفضيل البريطانيين (43%) زعيم المعارضة كاميرون كرئيس للوزارة، مقابل 28% لبراون.

ولذا إذا تمكن زعماء الصف الثاني مثل مايكل ميتشر وجون مكدونيل من الحصول على تأييد 44 نائبا من نواب العمال، سيكون صيفا ساخنا للحزب، بينما يذهب البرلمان والصحافة إلى شواطئ البحر.