انتخابات الرئاسة الفرنسية.. سيف اسمه استطلاعات الرأي

TT

لا حديث اليوم في الشارع الفرنسي سوى عن الانتخابات الرئاسية المنتظر إجراؤها في أبريل المقبل. الكلُ ماض في إبداء آرائه حسب أصول اللعبة الديمقراطية: الصحافة، رجال السياسة، المجتمع المدني، عامة الشعب، لكن أكثر من كل هؤلاء تبدو معاهد استطلاع الرأي وكأنها صاحبة الكلمة العليا في هذا الموضوع. فما من يومٍ يمر إلا وتردُ في صفحات الجرائد وعلى شاشات التلفزيونات آخر استطلاعات الرأي حول حظوظ المرشحين في الفوز، فترى معظم الصحافيين وهم يقضون وقتهم في مناقشة نتائج تلك الآراء أكثر من مناقشتهم للبرامج السياسية للمرشحين أنفسهم، وكأن الأرقام المقدمة إحصائيات دقيقة وليست مجرد دراسات تقريبية قابلة للخطأ، بل وتنبُؤات بنوايا الناخبين لا غير.

فمنذ بداية الحملة الانتخابية ونحن نشهدُ مناورة هذه الأرقام ذات الحول والطول وهي تتلاعب بشعبية بعض المرشحين، تدفعها إلى الإمام تارة وبنفس السرعة ترجعها للخلف تارة أخرى. ومهما بلغت درجة الجدل حول تأثير هذه الدراسات على المشهد السياسي الفرنسي لا سيما بين السياسيين الذين يدّعون عدم اكتراثهم بنتائج استطلاعات الرأي، إلا أن ما يبدو من ردود أفعالهم يثبت العكس. فهم دائمو الحرص على متابعتها والاستعانة بها من أجل جسّ نبض الشارع الفرنسي. ففرنسوا بيرو) مرشح تيار الوسط، وجد نفسهُ في ظرف أسابيع قليلة، حسب استطلاعات الرأي، الرجل الثالث في السباق نحو الرئاسة، (متخطياً جان ماري لوبان) زعيم حزب الجبهة الوطنية المعروف بتوجهه العنصري، بينما كان وجوده مستبعداً في الدور الثاني أصبح الآن مصدر قلّق لمرشح الحزب اليميني نيكولا سركوزي ومرشحة الاشتراكيين السيدة سغولان رويال، يوجهان له الضربات كلما سنحت الفرصة، وينتقدانه أكثر مما ينتقدان بعضهما.

أما السيدة رويال، التي كانت معاهد استطلاع الرأي قد قدمتها على أنها المرشحة الأولى الأوفر حظاً بالفوز طيلة الأسابيع الستة الأولى للحملة، فقد عرفت هذه الآونة الأخيرة تراجعاً في شعبيتها على حساب غريمها الليبرالي سركوزي، وهو ما جعلها تستنجدُ بالحنكة السياسية لأفيال الحزب الاشتراكي أمثال (فابيوس) و(ستروس كان)، اللذين التحقا بطاقمها أخيرا، بناءً على طلبها، لعلهم يفيدونها بخبرتهم في استدراك الوضع مرشح اليمين نيكولا سركوزي، المعروف بدهائه السياسي، لا ينتظر نتائج استطلاعات الرأي، بل يوصي بها وهو المعروف بإقباله الشديد على الدراسات النوعية. وبما أنه حريص جداً على استخلاص العبر من نتائج هذه الدراسات، فقد رأيناهُ أخيرا يبدي اهتماما أكبر بالمشاكل الاجتماعية، بعد أن كشف آخر استطلاعات الرأي أن الفرنسيين يعيبون عليه توجهاته المفرطة في الليبرالية، فبدأ يظهر على غير عادته وهو يتفقد أحوال عمال شركة الطيران (أربوس) ويستمع لمطالبهم الاجتماعية وهم يواجهون خطر التسريح، وذهب إلى أبعد من ذالك حين استعان في خطاباته وهو الليبرالي المقتنع بمقولات مشهورة (لجون جوراس) أحد كبار المفكرين الفرنسيين المعروف بتوجهه الاشتراكي، لحد سألهُ فيه أحد الصحافيين الفرنسيين، على سبيل التهكم، هل يعلم ما إذ كان أحد الأحياء الراقية لبلدته يحملُ اسم جون جوراس؟.

ومع ذلك، ورغم إقبال الفرنسيين أكثر من غيرهم على دراسات معاهد استطلاع الرأي، لا سيما إبان فترة الانتخابات، إلا أن اقتناعهم بمصداقيتها في انخفاض مستمر تبينت لهم مرتين حدود هذه الأساليب: مرة سنة 1995 حين فشلت معاهد استطلاعات الرأي في التنبِؤ بوجود الرئيس شيراك في الدور الثاني، وكانت قد قدمت المرشح الآخر للحزب (إدوارد بلدور) على أنه الأوفر حظاً بالفوز، طيلة الحملة الانتخابية، مع أن هذا الأخير لم يحقق سوى نسبة 17% من الأصوات في الدور الأول. ومرة ثانية أثناء الانتخابات الرئاسية لسنة 2002، حين أثار إخفاق استطلاعات الرأي في التنبؤ بوجود (جان ماري لوبان) زعيم تيار اليمين المتطرف في الدور الثاني جدلاً كبيراً في فرنسا حول مصداقية الأساليب المستعملة من طرف هذه المعاهد المتخصّصة، حيث حصرت السباق نحو الرئاسة في الدور الثاني بين مرشحي الحزب اليميني والحزب اليساري، بينما صُدم الكل بحصول حزب اليمين المتطرف على نسبة أصوات بلغت 17% مقابل 19% لحزب الرئيس شيراك.

ربما كانت ظاهرة اللّجوء لاستطلاعات الرأي مثل «السيف ذي الحدين»، حيثُ أصبحت عدة مغالطات تُقدم على أنها حقائق على أساس أنها مبنية على دراسات علمية، كما أن السياسيين أصبحوا يكيفون مواقفهم

وآراءهم حسب نتائج استطلاعات الرأي رغم هذا وذاك، إلا أنها تبقى تعبيرا صادقا عن احترام مثل هذه الدول لأُصول اللعبة الديموقراطية، فرأي الشعب بذات الأهمية التي تجعلهُ ينقلب إلى هاجس حقيقي للمرشحين من رجال السياسة. ولا تعليق عن غياب هذا التقليد في مجتماعتنا العربية، فلا وضعية حريات التعبير تسمح بذلك ولا شعوبنا العربية متعودة أن يُؤخذ برأيها، رغم أن الحاجة إلى ذالك كبيرة. ويكفي أن نرى إقبال مشاهدي القنوات الإخبارية على استطلاعات الرأي التي تجرى عبر شبكة الانترنت، لنعرف مدى تجاوبهم مع هذه الدراسات.. رغم أن البعض يمكن أن يقول لك لا حياة لمن تنادي.

* أكاديمية وصحافية جزائرية مقيمة بفرنسا