قرون الاستشعار

TT

نزلت في مطار (دلهي) العاصمة الهندية قادماً من دبي، وكانت الساعة تشير إلى الثالثة فجراً، وأخذت التاكسي متجهاً إلى الأوتيل، قد يقول قائل: (وما لنا ولك) سواء ذهبت إلى دلهي أم إلى المريخ (!!)، الذي يقول مثل هذا الكلام معه حق، وله أن يترك القراءة ويتوقف عن تكملة هذا المقال، لأنني سوف استرسل في التحدث عن نفسي وملاحظاتي واضطراباتي، فأنا لا أكتب للناس، أو من أجل الناس، أو طمعاً في رضاء الناس. بل دعوني أكون أكثر صراحة وفجاجة ونرجسية، حينما أؤكد وأصر على أنني لا أبحث إلاّ عن رضاء نفسي، الاستمتاع بها ومعها في هذه الحياة الصاخبة المرحة الفاجعة القصيرة.

صدقوني إن الذي لا يحب نفسه ولا يتلاءم معها، من الصعب جداً أن يحب الآخرين ويتلاءم معهم.

فليس لي أية (ايديولوجية) في هذه الحياة، فمثلما دخلتها بشكل فجائي وطارئ ومفروض، سوف اخرج منها بنفس الطريقة، ولن أتحسر على شيء مضى، ولن ألهث عن شيء سيأتي، فما أملكه فقط هي هذه اللحظة التي سوف اشربها و(أمزمز) عليها حتى الثمالة، حتى ولو كره الكارهون.

أعود إلى تلك المدينة التي أتيت لها من دون هدف محدد، ولكن فقط من اجل الاكتشاف ولا شيء غير الاكتشاف الذي هو من ضمن هواياتي الرائعة والمقلقة كذلك.

وعندما انطلقت من المطار لفتت نظري من بعيد سحابة شفافة داكنة تغطي سماء المدينة، وسألت السائق الشاب عنها، فقال لي: إنها ضباب، فعرفت رأساً انه يكذب، لأنها كانت في الواقع سحابة (تلوّث)، غير أنني عذرت لذلك السائق كذبته الحميدة تلك، لأنه يحب مدينته، وهناك احتمال انه يحب صبية فيها، وهذا ما لمسته من هزة لرأسه وهو يستمع لأغنية شجية في الراديو.

وصلت إلى الأوتيل، ووقفت أمام النافذة في غرفتي حافي القدمين، وحاسر الرأس، ومنشرح الصدر أتأمل تلك المدينة من الطابق الثاني عشر، وأتخيل (15) مليوناً من البشر، ومثلهم من البهائم، هم الآن تحتي وأنا اكتب هذه الكلمات، بعضهم نائم، وبعضهم ساهر، وبعضهم ضاحك، وبعضهم باك، وبعضهم يصارع الموت، وبعضهم يضاجع الحياة، وبعضهم هائم، وبعضهم ضائع، وبعضهم جائع، وبعضهم يحوك الدسائس، وبعضهم يحوك أسماله، وبعضهم يتعبّد، وبعضهم (ضاربها صرمة).

أعلنت الساعة السابعة، ولم يداعب النوم أجفاني، بل إنني كنت في قمة نشاطي، واكبر دلالة أنني كنت من أول الداخلين إلى بوفيه المطعم المفتوح، وبعد أن تناولت إفطاري على عجل، وكأن هناك من يحثني على الذهاب إلى موعد مهم وحاسم، مع أنني لا أعرف أحداً هنا، ولا هنا احد يعرفني، وهذا من حسن حظهم وحظي أنا كذلك.

خرجت إلى الشارع وأحسست بقشعريرة برد بسيطة، غير أنني استمتعت بها، وفتحت أزرار قميصي أكثر، وأطربتني (كلكسات) السيارات التي لا تتوقف عند العزف ولا ثانية واحدة، وتداحمت وتزاحمت مع الناس، وعفرت حذائي بتراب الأرصفة، والقيت التحية على مجموعة من الأبقار، وردوا التحية بأحسن منها، وبعد أن سرت على غير هدى لمدة لا تقل عن ثلاث ساعات، شعرت بالتعب، وقررت أن أعود إلى الأوتيل، عندها اكتشفت أنني تائه، وهذا هو أروع ما في الموضوع، عندما تكتشف انك تائه في مدينة غريبة لا تعرف ولا ترجو فيها أحداً.

والعجيب أنني في النهاية عدت، ولا أعرف إلى الآن كيف عدت بدون أن اسأل.. يبدو لي أن الفضل في ذلك يرجع إلى (قرون الاستشعار).