النخوة أيضا

TT

استئنافا لما كتبت عن النخوة، أود أن أشير بصورة خاصة لمدينة السماوة. إنها من اصغر مدن العراق ولكنها أخرجت جيشا من الشعراء والأدباء يحملون اسمها رغم صغرها. والظاهر أن لأهلها اهتماما خاصا بشؤون الفكر والتمسك بمفاهيم النخوة. كانت السماوة اقرب مدينة لنقرة السلمان، السجن الرهيب وسط الصحراء المخصص لقادة الحزب الشيوعي. زجوا فيه زكي خيري وحميد عثمان وعزيز الحاج وسواهم. اعتاد ذووهم على زيارتهم مرة في الشهر للاطمئنان عليهم وتزويدهم بالثياب والطعام والكتب والجرائد ونحو ذلك. كانوا يركبون قطار الليل من بغداد ويصلون محطة السماوة في الواحدة والنصف ليلا. وكانت السيارات التي تنقلهم لنقرة السلمان لا تنطلق ليلا خوفا من الضياع في البادية. اعتادت على السفر عند الصباح. يعني ذلك انه كان على عوائل السجناء أن يمكثوا في السماوة حتى الصبح. لم يكن في هذه المدينة الصغيرة أي فندق أو خان لقضاء الليلة، فتحيروا في أمرهم . تمددوا على الأرض وناموا بجوار حائط المحطة.

سمع بذلك اهل المدينة. عضوا على أصابعهم وقالوا: الله يلعن الشيطان. ناس مسلمون، رجال ونساء وأطفال، ينامون على الأرض بولايتنا؟! استغفر الله! يا عيب الشوم! خفوا اليهم بسياراتهم وعرباتهم وخيلهم وحميرهم وجاءوا بهم وتقاسموهم في ما بينهم. الحاج علي حيدر اخذ الرجال الى بيته. الحاج حسن الخليلي اخذ النساء ليضمهن لنساء بيته. سيد نور الياسري اخذ اسرة عزيز الحاج الى داره. من كان عنده أطفال اخذ أولاد الشيوعيين لبيته ليلعبوا مع أولاده. عرفوا انهم كانوا في طريقهم الى سجن نقرة السلمان ليزوروا قادة الحزب الشيوعي العازمين على الثورة وقلب كل شيء في العراق. ولكنها كانت أيام خير وكانت في قلوب الناس روح النخوة التي أشرت اليها، وليس روح الرغبة في الخطف والتسليب والقتل ونهب أموال الدولة.

وتحولت المناسبة الى عرف من أعراف مدينة السماوة. لا يسألون الأسرة اذا كانوا سنة أو شيعة، يهودا أو نصارى. كل من جاء اليها في طريقه الى سجن نقرة السلمان ينزل ضيفا على احد بيوتها. يفرشون له السرير ويقدمون له الزاد و الشراب ويخففون عنه مصيبته ويودعونه عند الصباح بالسلامة وقريب الفرج. كان الضيف يعطيهم أثناء ذلك، وربما كأجرة منام، شيئا من منشورات الحزب وأدبياته. يقرأ منها صاحب البيت سطرا أو سطرين ثم يرميها في الزبالة. ولكن نشأت بفضل هذه الضيافة السياسية علاقات وطيدة بين هذه العوائل الفراتية السماوئية، آل الياسري وآل الخليلي وسواهم وعوائل السجناء السياسيين استمرت لما بعد ثورة عبد الكريم قاسم، وربما الى الآن.