حديث القمة العربية

TT

لا يمكن الجزم بالنتائج التى سوف تفضي إليها القمة العربية المنعقدة اليوم بالرياض وأنها ستأتي على عكس ما هو معتاد بالنسبة لكثير من القمم السابقة التي كان يمكن التأكيد على أن أهم نتائجها ـ كما كان يقال ـ هو انعقادها، وما بعد ذلك هو من قبيل التفاصيل أو تحصيل الحاصل. ولم يكن خافيا على أحد في تلك الأوقات أن القمة تنعقد وهي هم ثقيل على كل القادة العرب، ولا يذكر أنه جرى انعقاد لقاء القادة وهناك حالة من الانتظار والترقب واللهفة والبهجة لأن الأمة اجتمعت لتمسك بتلابيب مستقبلها. وعندما جرى الاتفاق على «دورية» القمة ساد الظن أنه تم القضاء على مناورات واعتراضات وملاعبات هذه العاصمة العربية أو تلك، ولكن الذي حدث ما بين الموعد «الدوري» لانعقاد القمة، كان شهادة على أن القضية العربية مفتعلة من أولها إلى آخرها. فالعرب فى الحقيقة لا يريدون الاجتماع، وإذا اجتمعوا فإنهم لا يريدون الاتفاق، وإذا اتفقوا فإنهم يتفقون على ما هو ليس قابلا للتنفيذ.

ولم تكن أسرار ذلك خافية على أحد، ولكن أكثرها «شهرة» هو المفارقة بين القول والفعل، وهي عادة تصل إلى أقصى درجاتها تناقضا في الساحات العربية فقط، لأن كل العرب أعضاء في تنظيمات إقليمية شتى. ومع ذلك فهم ملتزمون تماما، ولا تجد أحدا يعقد مؤتمرا صحفيا للانسحاب من قمة فور الإعلان عنها، ولا أحد يستغل القمة لكي يلقي المحاضرات على باقي القادة، ولا أحد يقوم بالأكروبات العربية المعروفة. فالعمل ضمن إطار إقليمي أو دولي باتت له تقاليده المعروفة، وخطواته المرصودة، ويعرفها العرب عن ظهر قلب في مشاركاتهم الإقليمية والدولية، ولكنهم عندما يدخلون «بيت العرب» ينقلب الأمر فوضى، ولا يعرف أحد تقاليد أو خطوات معلومة، وإنما حالة من الصياح والهجاء والتلاسن. وحتى يرضي الكل ضمائرهم اخترعوا شخصية تمثل الجميع وتختلف عن الجميع اسمها «العرب»، ويستطيع الكل لومها وإلقاء الأسباب عليها بلسان «عربي» فصيح. ولمن حضر واحدة من هذه القمم من الإعلام العربي والأجنبي فإنه سوف يلحظ أن الكل يترقب ساعة الرحيل في ساعة الوصول، وبين لحظة وأخرى فإن الكل يتوقع واحدة من البهلوانيات السياسية التى لا تجري إلا في اجتماعات القمة العربية، ومن المدهش أنها هي التي تبقى بعد ذلك في الذاكرة العربية والعالمية أيضا.

قمة الرياض قد تكون مختلفة هذه المرة، لأن المكان مختلف واللحظة الزمنية مختلفة، وربما لأن كثيرا من العرب قد أدركوا أن القمم العربية يمكن أن تكون مجدية إذا ما كانت لها أهداف محددة وتوفر لها المناخ الدولي والإقليمي المناسب. والمكان مختلف ليس فقط للثقل الإقليمي والعالمي للدولة السعودية، وإنما أيضا لما حققته الدبلوماسية السعودية خلال الفترة القصيرة الماضية؛ فعلى عكس ما كان معتادا من قبل حيث كانت الدبلوماسية السعودية تعمل من وراء الكواليس أكثر مما تعمل أمامها، وحيث تغلب القاسم المشترك الأدنى بين الدول العربية، طالما يحقق اتفاقا على انقسام يشرذم الأمة ويبعثرها؛ فإن الحركة السياسية السعودية قد باتت فى مقدمة المسرح الإقليمي، وأكثر استعدادا لبلورة مواقف متكاملة تطلب من العرب تبنيها. وربما لم يحدث من قبل أن تمت هذه الشبكة من الاجتماعات التشاورية بين الدول العربية على مستويات مختلفة ـ وزراء الخارجية، وقيادات أجهزة الاستخبارات، ووزراء وفنيين ـ كما حدث خلال الأسابيع والشهور القليلة الماضية. ولم يكن التشاور جاريا على المستوى العربي وحده، بل كان ممتدا لكي يشمل الولايات المتحدة بمقدار ما شمل إيران، وروسيا بقدر ما وصل إلى الصين والدول الأوربية المختلفة.

ومن خلاصة كل هذه المشاورات، فإن لحظة القمة جاءت مصنوعة من نسيج كامل من الحركة الدبلوماسية والسياسية، التى ترجمت على شكل لبنات تجعل العمل العربي من أجل القضايا العربية ممكنا. فلم يكن إعلان مكة وما ترتب عليه من تشكيل الحكومة الوطنية الفلسطينية بعد طول انتظار، إلا واحدة من مكونات اللحظة التي أعادت الانضباط إلى ساحة فلسطينية طالتها الفوضى؛ وإنما أضيف لها وقف الانهيار على الساحة اللبنانية التي كانت تندفع بسرعة الضوء إلى ساحة الحرب الأهلية، وكأن ما يجري في العراق ليس كافيا لوجع الأمة. وربما لم يكن كل ذلك سوف يكون ممكنا لولا أن تكونت كتلة عربية «معتدلة» كان من أهم مبادئها هو رفضها الامتثال لابتزاز الدول العربية «الراديكالية»، التي دأبت على اتخاذ القمة العربية مناسبة للمزايدة بشعارات ومواقف حماسية، ليس لها دلالة عملية في الواقع إلا استمرار الأوضاع العربية على ما هي عليه. هذه الكتلة نجحت ـ بحكمة قادتها ـ في الحفاظ على أهدافها، رغم محاولات الوقيعة الظاهرة والخفية بين القاهرة والرياض، في دفع المعسكر العربي كله نحو البراجماتية والعملية في مواجهة المشكلات العربية المستعصية.

وبصراحة كاملة فإن قيام كتلة الاعتدال هذه كان هو الذي أعاد التوازن إلى المنطقة وأعطاها بعضا من الآمال لكي تخرج من أزمتها، فقد أخذت منظمة حماس المنتخبة القضية الفلسطينية إلى تيه الشعارات وتركتها أشلاء مبعثرة بلا تحرير أو تنمية، وأخذ حزب الله لبنان إلى حافة الحرب الأهلية بعد تغطيتها بحرب أخرى مع إسرائيل لكي يبقى القوة المسلحة الوحيدة في لبنان، وأخذت قوى أصولية وراديكالية بأشكال مختلفة شيعية وسنية العراق ليس فقط إلى الحرب الأهلية وإنما إلى التقسيم والتفكك. وأخيرا فإن إيران دخلت على طريقة أحمدي نجاد الراديكالية في مواجهة ليست فقط مع الولايات المتحدة وإنما مع مجلس الأمن وباقي القوى العالمية الأخرى، وهي مواجهة إذا ما انتقلت من حالتها السياسية والدبلوماسية إلى حالتها العسكرية، فإنها سوف تقلب المنطقة رأسا على عقب أكثر مما هي مقلوبة بالفعل.

هذا التغير في الواقع العربي لا يزال في بدايته، ومن الطبيعى أن نجد حتى ذلك المستوى من الإنكار بوجوده من أجل ترك الفرصة لكافة القوى العربية مهما كانت توجهاتها إلى المشاركة في أعمال جادة، سواء ما تعلق منها بتحقيق الاستقرار في العراق أو وضع خريطة طريق عربية لحل الصراع العربي ـ الإسرائيلي. وقد وضح ذلك بالفعل من خلال مؤتمر بغداد لبناء توافق إقليمي ودولي لتحقيق الاستقرار في بلاد النهرين؛ ومن خلال الطرح الثاني للمبادرة العربية بعد خمس سنوات من طرحها لأول مرة في قمة بيروت. هذه المرة فإن طرح المبادرة لم يكن مجرد تسجيل لموقف تاريخي على الآخرين أن يقبلوه أو يرفضوه، وإنما طرحه كسياسة وإطار للمفاوضات تقبلها الولايات المتحدة وأوروبا وباقي العواصم العالمية الرئيسية. ولأول مرة منذ وقت طويل ـ ربما منذ زيارة السادات للقدس ـ فإن إسرائيل هي الواقعة في موقع الدفاع السياسى والاستراتيجي في مواجهة خطة عربية خالصة.

هل يكون ذلك نقطة تحول في الموقف العربي قد تكون فيه مبالغة في التساؤل، فلا يزال المناخ العربي مشبعا حتى النخاع بالشعارات التي لا تغني ولا تسمن من جوع، ولا تحرر أرضا ولا تبني بلدا؛ ولكن هناك مساحة باقية دائما للأمل أن العرب بمقدورهم الخروج من فخ الكلمات والشعارات والمواقف إلى ساحة السياسة والاستراتيجية الواسعة!!