مصر.. المرجعية الدينية بين الحظر والتوظيف

TT

حين صرح شيخ الأزهر بأن مقاطعة الاستفتاء على التعديلات الدستورية في مصر من قبيل «كتمان الشهادة» المستهجنة شرعا، فإنه وقع في خطأين، أحدهما فقهي والثاني قانوني، الخطأ الفقهي يتمثل في أنه اعتبر أن الآية «ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه» تنطبق على الذين يعلنون مقاطعة الاستفتاء، في حين أن إعلان المقاطعة هو شهادة بحد ذاته. صحيح أن الذي يتوجه الى صناديق الاقتراع مؤيدا أو معارضا يؤدي واجب الشهادة، لكن الذي يرفض المشاركة في الاستفتاء حتى لا يضفي عليه شرعية، لا ينسب إليه كتمان الشهادة، لأنه بموقفه هذا اختار أن يعبر عن شهادته بطريقة أخرى.

أما الخطأ القانوني، فإن تصريح شيخ الأزهر ـ الذي يؤخذ كلامه بحسبانه فتوى صادرة عن الإمام الأكبر ـ يعد مخالفة للنص الذي أضيف الى المادة الخامسة في الدستور ضمن حزمة التعديلات الجديدة، وهو يقضي بأنه «لا تجوز مباشرة أي نشاط سياسي أو قيام أحزاب سياسية على أية مرجعية أو أساس ديني»، ذلك أن القانون يحظر حقا قيام الأحزاب على أساس ديني أو عرقي، لكن التعديل ارتقى بالنص ووضعه ضمن الدستور، بعد توسيع نطاق الحظر الذي لم يعد يشمل قيام الأحزاب استنادا الى المرجعية الدينية، وإنما أيضا مباشرة أي «نشاط سياسي». وهذه الإضافة تنطبق تماما على تصريح شيخ الأزهر، فهو يدعو الناس الى رفض المقاطعة ويحثهم على الذهاب الى صناديق الاستفتاء ـ مستندا في ذلك الى النص القرآني الذي يعتبر كتمان الشهادة إثما ومعصية. أي أنه يدعوهم الى المشاركة في نشاط سياسي مهم مستعينا في ذلك بالمرجعية الدينية المتمثلة في التوجيه القرآني.

(لحسن حظ الإمام الأكبر أنه قال هذا الكلام قبل ثلاثة أيام من موعد الاستفتاء الذي تم يوم الاثنين الماضي (25/3) ـ الأمر الذي يعني أن النص الدستوري لم يكن قد اصبح ساري المفعول، بالتالي فإن قانون الأحزاب المفترض صدوره بعد التعديل لم يكن قد تم إعداده بعد، بما يحدد العقوبة المترتبة على مخالفة مضمون النص الدستوري).

لست أشك في أن هذا الإشكال المترتب على توسيع نطاق الحظر في الدستور سوف يتكرر مع كل أنشطة وزارة الأوقاف والمؤتمرات الأزهرية، وغير ذلك من الممارسات التي يمكن أن تعد سياسة في نهاية المطاف تنطلق من المرجعية الدينية، وهو ما ينطبق بذات القدر على البرامج الدينية التي تتناول القضايا العامة فيما يقدمه التلفزيزن والإذاعة في مصر.

هذا الإشكال ظهر أثناء مناقشة التعديلات الدستورية في مجلس الشعب المصري، حيث ذهب معارضو المادة إلى أنه من المتعذر في مصر إقصاء المرجعية الدينية عن الأنشطة السياسية، وأيد هؤلاء موقفهم بإثبات أن برنامج الحزب الوطني الحاكم يستند في بعض فقراته الى المرجعية الدينية، بما يعرضه للحل بعد صدور التعديلات الدستورية، وهى المفاجأة المحرجة التي لم يتحسب لها ممثلو الحزب الوطني الذين دافعوا عن التعديل وأيدوه بقوة، فأوقف رئيس البرلمان جلسة المناقشة لبعض الوقت، لكي يتم التشاور حول إدعاء المعارضة.

لقد تبين فعلا أن المرجعية الدينية تحتل موقعا مهما في البرنامج السياسي للحزب الوطني، الذي ينص على «الإيمان العميق والراسخ بالقيم الدينية والروحية» مشيرا الى «أن عمق إيمان جماهير حزبنا بالقيم الدينية والروحية، إنما تمتد في أصوله وجذوره عبر مجتمعنا وحضاراته المتعاقبة»...«ومن ثم نظرتنا الى بناء الإنسان المصري وتحقيق رفاهيته لا يمكن أن تنفصل عن قضية إذكاء القيم الروحية والدينية لديه، وذلك بمزيد من الإهتمام بالتربية الدينية وبث روح التضحية والفداء، لذلك كان طبيعيا أن يؤكد حزبنا على أن الشريعة الإسلامية هى المصدر الرئيسي للتشريع، بحيث يلتزم المشرع المصري بمبادئ الشريعة فيما يصدره من قوانين، كما ينوه البرنامج الى أنه «بناء على ما لمصر من مكانة دينية في العالم بأزهرها الشريف، فإن الحزب الوطني الديمقراطي يدعو الى العناية الفائقة بالرعاية الدينية للمجتمع في كل المجالات» لذلك دعا الحزب الى ضرورة «أن تتضمن مناهج التربية الدينية الجانب العملي والتربوي، ونشر الثقافة الدينية الأصيلة في جميع المراحل الجامعية، لسد الفراغ الديني والنقص العلمي في التعليم الجامعي، وحتى يتعرف أبناؤنا في الجامعات على الثقافة الدينية الأصيلة من منابعها الحقيقية»، ويستمر البرنامج في ذات الإتجاه فينص على أنه «يدعو الحزب الوطني الديمقراطي الى تركيز الإعلام على جانب القيم والأخلاق والتوجيه الديني، لغرس القيم ومواجهة التحديات..الخ

هذه الإحالات المتعددة الى المرجعية الدينية في برنامج الحزب الوطني الحاكم، لا تدع مجالا للشك في أنها تمثل جانبا من دعائم البرنامج السياسي للحزب، الأمر الذي يمكن أن يقع تحت طائلة الحظر في ظل التعديل الجديد للدستور المصري، إذا أخذ بظاهره، ودونما حاجة لبذل أي جهد للتوسع في التفسير.

لست في وارد استنكار هذا الموقف من جانب الحزب الحاكم، ولكنني أذهب الى أن هذه الإحالات في موضعها، وأن أي حزب يريد أن يعبر حقا عن ضمير المجتمع في عالمنا العربي الإسلامي لا يستطيع أن يتجاهل المرجعية الدينية في برنامجه السياسي، وإذا ما تجاهلها فإنه سوف يعزل نفسه عن الجماهير ولن يجد من يستمع إليه أو يصوت له.

بعض الخبثاء يقولون إن التحفظ على المرجعية الدينية في مباشرة العمل السياسي ينصب على الحالة التي توظف فيها تلك المرجعية في معارضة الأوضاع السياسية، أما إذا وظفت في مساندة تلك الأوضاع وتأييدها ـ كما في حالة تصريح شيخ الأزهر السابق ذكره ـ فأنه يرحب بها الى أبعد مدى. وهم يدللون على ذلك بأن الرئيس الراحل أنور السادات الذي ما برح يعلن أنه لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين، ظل يقدم نفسه بإعتباره «الرئيس المؤمن»، وهو من أعلن أنه «رئيس مسلم لدولة مسلمة»، ويذكرون بأن الرئيس عبد الناصر الذي خاض صراعا طويلا ضد جماعة الإخوان المسلمين وحظر نشاطهم السياسي، لم يجد أمامه سوى منبر الأزهر يعتليه، حينما أراد أن يستنهض همة الشعب المصري للصمود والمقاومة أثناء العدوان الثلاثي على مصر (البريطاني الفرنسي الاسرائيلي) في عام 1956.

ورغم أن ذلك الرأي لا يخلو من وجاهة، إلا أنني أحسب أن الأمر أعمق من ذلك بكثير، لسبب جوهري، هو أن الحقيقة الإيمانية في العالم العربي والإسلامي لها مركزيتها التي يتعذر تجاهلها في أي عمل عام، وهذه المركزية وثيقة الصلة بطبيعة العقيدة الإسلامية ذاتها، التي تشكل وجدان المسلم بما يجعل العنصر الإيماني متداخلا مع كل حركاته وسكناته، وإذ يتعذر فصل تلك الحقيقة الإيمانية من سلوك المسلم، فإن التحدي الحقيقي الذي يواجه الأنظمة السياسية المختلفة في العالم الإسلامي هو كيف يمكن أن توظف الطاقات الإيمانية لصالح مجتمعاتها وليس ضدها، ومن أجل إشاعة الخير والنماء والتقدم، وليس لأجل زعزعة الاستقرار وتكريس التخلف.

في هذا الصدد لا يفوتنا أن نذكر بأن تجذر الحقيقة الإيمانية وشمولها في مجتمعاتنا يمثل إحدى العلامات الفارقة بينها وبين المجتمعات الغربية. وهذه المجتمعات الأخيرة اختارت تهميش الحقيقة الإيمانية من خلال انحيازها الى العلمانية، بما أفرزته من صياغة للواقع عزلت الدين عن المجال العام، ورفعت شعار فصل الدين عن السياسة، ولئن احتملت العقيدة المسيحية ذلك الفصل، كما شجعت عليه الخبرة الغربية ومعاناتها من تسلط الكنيسة، إلا أن هذه الملابسات ظلت منتجا طبيعيا للتجربة الغربية، وثيق الصلة بظروفها الخاصة، وكان الخطأ الكبير والجسيم الذي وقعت فيه بعض عناصر النخبة في عالمنا العربي والإسلامي أنها حاولت أن تستجلب الحلول الغربية التي أفرزتها التجربة الأوروبية، وحاولت تطبيقها على مجتمعاتنا، المختلفة في العقيدة وفي الخبرة التاريخية.

لا أريد أن اقلل من شأن ما أنجزته العلمانية في التجربة الغربية، خصوصا في مجال الحريات العامة، ولا أجد غضاضة في الإفادة من خبرات الآخرين على ذلك الصعيد، فالحكمة ضالة المؤمن حيثما وجدت، إلا أنني مع ذلك أحذر من إطلاق الاعتماد على الصيدلية الغربية في علاج أمراضنا السياسية، إذا جاز لي أن اقتبس تعبير المفكر الجزائري البارز مالك بن نبي، أما كيف يمكن أن نوفر الدواء المطلوب في صيدلياتنا لعلاج أمراض مجتمعاتنا. فذلك أمر يستحق المناقشة، وله مجال آخر. وبالمناسبة فإن ذلك ليس صعبا إذا توافرت لدينا الإرادة اللازمة لذلك. فما يهمني في اللحظة الراهنة هو الاتفاق على المبدأ بالتحذير مما ينبغي ألا نفعله ونتورط فيه، وليس تبيان الذي يتعين علينا أن نفعله.

إن مسألة الفصل بين الدين والسياسة يتعذر استيعابها في التفكير الإسلامي الذي يعتبر الإسلام نظام حياة يستوعب العبادات والمعاملات والأخلاق. صحيح أن التمييز بين المجالين مفهوم، لكن الفصل التام بينهما على النمط السائد في الغرب يمثل إضعافا للدين وإقصاء له، ويحرم المجتمع من الإفادة من الطاقة الإيمانية الضخمة التي يمكن أن تعد عنصر ثراء يغني المجتمع؛ ويسهم في نهضته. وغني عن البيان أن ذلك التوظيف المنشود لا يضفي على أحد قداسة من أي نوع، ولا يحصن الاجتهاد السياسي لأولي الأمر ضد المراجعة أو النقض.

بسبب من ذلك، فإنني أزعم أن إقصاء المرجعية الدينية من المجال العام ليس من الصواب أو الحكمة في شيء. إذ فضلا عن تعذر ذلك من الناحية العملية، فإن المترتب على ذلك الإقصاء فيه من الضرر أكثر من النفع، ليس فقط لما سبق أن ذكرته من إهدار لفرصة الإفادة من الطاقة الإيمانية، ولكن أيضا لأن من شأن ذلك أن يدفع الملتزمين دينيا إلى الانزواء والتحرك بعيدا عن القنوات المشروعة، بما يستصحب ذلك من مخاطر وشرور عانت مجتمعاتنا منها طيلة السنوات الأخيرة.

إن كفاءة العمل السياسي وحكمته في العالم العربي والإسلامي تقاس بمدى قدرته على الإفادة من طاقات المجتمع ـ الإيمانية وغيرها ـ لصالح النهوض به ودفع عجلة التقدم فيه .. وليت أهل السياسة يتنافسون في ذلك.