العراق.. ألا راجعت الأحزاب الدينية أداءها!

TT

تعطي المعركة الأخيرة بين التيار الصدري، ممثلاً بميليشيا المهدي، وبين ميليشيا حزب الفضيلة بالبصرة، وهما قوتان شيعيتان ومن جذر صدري واحد، مثالاً حياً على أن الحوادث بالعراق سياسية، غُلفت بغلاف الطائفية الدينية، وأن الأقاليم والفدراليات على الأساس الطائفي، وحتى القومي، لم تحل المعضلات، إذا وظف فيها الدين، واستخدم فيها التعصب القومي. وبرهنت تلك المعركة، وغيرها من التي لم ينلها الإعلام، أوهام القائلين ببسط الأمن بالبصرة ومناطق الجنوب الأخرى، بظل ميليشيات مسلحة، مع أن القاتل والمقتول على شواطئ شط العرب هما من طائفة واحدة. جرى القتل هناك بسيارة (البطة) الشهيرة، التي تقتل وتدلف إلى مقرات الأحزاب، وإلى محافظة البصرة، فهي الأخرى مقر لحزب لا لمحافظة. ثم استبدلت (البطة) بسيارات سود، مظللة تقودها الشرطة، وهي الأخرى شرطة أحزاب لا شرطة دولة.

لا بد من أن يأتي اليوم، الذي ينتهي به الحديث عن الظلم الطائفي، والذي يحدده الكثيرون بألف وأربعمئة سنة، مع أن كل تلك السنين، من معاوية بن أبي سفيان وحتى صدام حسين، كان الأمر فيها سياسياً لا دينياً. غير أن طرح الموضوع سياسياً لا يجذب العامة، والأتباع، لذا لا بد أن يُغلف بغلاف الدين، حتى يحظى بالقدسية، وسهولة جمع الأتباع. لا يبدو البرنامج السياسي جذاباً في المجتمعات المتردية حضارياً إن لم يُدعم بالمقدس، لذلك قُدمت قوائم الانتخابات (2005) بأسماء الأئمة، وحتى أرقام القوائم فُسرت بالمقدسات. وليس أمر توظيف المقدس في السياسة والحروب بجديد. قيل عندما ثار محمد النفس الزكية (رمضان 145هـ) وقُتل على يد أبي جعفر المنصور (ت 157هـ)، وكان يُلقب بمهدي آل محمد، أخذ القوم يشتمونه وينسبونه إلى الكفر، حتى «أقبل عليهم قائد لهم، فقال: كذبتم والله، وقلتم باطلاً، لما على هذا قتلناه، ولكنه خالف أمير المؤمنين، وشقَّ عصا المسلمين، وإن كان لصواماً قواماً، فسكت القوم» (الطبري، تاريخ الأمم والملوك).

لو تركت الأحزاب الإسلامية اللعب بالمقدس، ومنه الشعور الطائفي، وتحدثت بالسياسة مباشرة، لجنبت العراق والعراقيين من حفر الأحقاد في القلوب، بل لجنبت تبادل العنف الطائفي، فليس من العدل أن ترفع شعار الدين والمذهب، وهو المكرم في نفوس الناس، وأنت ليس لديك برنامج خبز وماء ونور لهم.

أقول: ستأتي اللحظة، التي يعفى بها النظام السابق من تحمل المسؤولية وذلك لتقادم الزمن، فعندها سيصبح الحديث مجرد تبرير، وحشو كلام، وهتاف فارغ. كذلك لا يبدو الاحتلال والعنف سببين قاهرين في منع تقدم الحال بالبصرة ومناطق الجنوب الأخرى مثلاً، إذا سلمنا أنهما مؤثران ببغداد وديالى والأنبار مثلاً. فماذا عن النجف، وهناك يتحدث النجفيون، مثلما هو الحال بالبصرة، عن غزو حزبي للأراضي والمحال؟ قد نساير أهل هذا العذر، لكن ليس هناك من بارقة في الأفق، في أن الأحزاب أو الشخصيات الدينية، لديها الحل المؤمل، بل سعت إلى تشويه الديمقراطية، عندما حشرت الديني والمذهبي في صناديق الانتخابات.

ولدى الطرف الآخر، سمعت، وباستغراب وذهول، حديث الناطق باسم هيئة علماء المسلمين، الشيخ بشار الفيضي، يدافع عن احتضان المقاتلين العرب، مع أنهم قتلة، واعترف أحدهم بذبح ثلاثين، وآخر بقتل أربعمئة عراقي. وعذره في ذلك أنهم مقاومة! يدافعون عن حياض الإسلام، واعترف باحتضانهم. ومعلوم أن تصلب هيئة علماء المسلمين خلق حالة من الاستنفار الطائفي، وتحت مبرر واحد هو الدفع بالمقدس إلى أرض المعركة. ولدينا دليل آخر على أن عمل الهيئة هو عمل سياسي لا ديني، في نسبة كبيرة من ثقله، أنها دعمت جيش المهدي، وشجعت فتح خط معه من الفلوجة إلى النجف، وذلك لعرقلة أي تقدم في العلمية السياسية، وعادت اليوم تقايضه بالقاعدة. وهي تقول على لسان شيخها الفيضي أيضاً: قد نكفر القاعدة مقابل تكفير جيش المهدي!(مقابلة مع قناة البغدادية) ومن جانبها تحجم القوى الدينية الشيعية عن هذه المقايضة. أقول للطرفين: ما هو ذنب الناس في هذا التبادل، واللعب بالمقدس؟!

وفي غضون ذلك، اعترفت أكثر من شخصية إسلامية، بأن الإسلام السياسي فشل بالعراق. بمعنى أنه إذا أرادت الأحزاب الدينية خيراً للعراق أن تبادر إلى تشكيل أحزاب عراقية، لا تسعى إلى محاصصة في النفط وفي القتل. وما صرحت تلك الشخصيات إلا بعد رؤية الواقع العراقي بعين سليمة من الرمد، وبعد قراءة تجارب دولية عديدة لم يتمكن أصحابها من إفادة الدين والدنيا. بداية من أحوال الكنيسة، في العصور الوسطى، التي بتجنبها لأمر إدارة الدولة بأوروبا وصلتنا اختراعاتها واكتشافاتها، ولجأنا إلى أنظمتها الحرة. وسمحت دولة الهند، غير الدينية، أن يكون المسلم أبا الكلام رئيساً لبلاد الهندوس والبوذيين، لعلمه وطباعه لا لدينه ومذهبه. ومن تجارب الإسلام السياسي تأتي الدولة الإيرانية، فمثلما هي الآن إسلامية بالغلاف، وكل شيء فيها يسير إلى ردة معاكسة. وتبرز إلى المقدمة، في تجارب الإسلام السياسي أيضاً، تجربة القوى الدينية بأفغانستان، فما أن خرج الاحتلال السوفياتي مكسوراً، إلا وشبت الحرب بين أهل الدين والمذهب والجهاد الواحد، حتى أتت طالبان، فمنعت تعليم المرأة، واللعب بطائرة الورق، ولا أظن أتباع أبي درع ومؤيدي الزرقاوي أرحم منها، وهما مدعومان من الأحزاب الدينة من الطائفتين، ويمثلان مشروعاً من مشاريع أسلمة السياسة.

عموماً، قد تُجيد الأحزاب الدينية المعارضة، وتجيش الجيوش ضد خصومها، لكنها على ما يبدو غير فالحة في السلطة، فهي لم تستطع تقديم نفسها، ببلد مثل العراق، خارج لعبة الطائفية والعنف. ومن جانب آخر هي لم تستطع ترك المواطن وشأنه، لأنها تخشى من خلل يصيب هيبتها، ويقلل من تأثيرها، المعتمد أساساً على استلاب المقدس. غير أن هذا لا يعفي من وجود شخصيات وتيارات، خرجت من بينها، تحاول التعامل مع الأشياء بأسمائها: السياسة سياسة، والدين دين. تحاول، تلك التيارات، رغم قلة الناصر، شق طريقها إلى الحياة السياسية. فإذا تُرك الأمر للكيانات الحالية ستبقى سياسة البلاد مداولة بين مؤيدي القاعدة وأخواتها، وجيش المهدي وبقية الميليشيات.

على أية حال، لما دخل المسلمون البصرة (العام 14هـ) سأل الخليفة عمر بن الخطاب عن أحوالهم فيها، فقيل له: «انثالت عليهم الدنيا، فهم يهيلون الذهب والفضة، فرغب الناس في البصرة فأتوها» (ابن الأثير، الكامل في التاريخ). فما بين الأحزاب الدينية وميليشاتها بالبصرة اليوم ليس الدين والمذهب ولا الديمقراطية بل معارك من أجل الهيل من ذهبها وفضتها: نفطها..!

[email protected]