البابا يهاجم أوروبا الملحدة!

TT

كان متوقعا ان تندلع المعركة عاجلاً أو آجلاً بين بابا روما والاتحاد الأوروبي. والواقع ان المناوشات الأولى كانت قد حصلت في عهد سلفه البابا يوحنا بولس الثاني اثناء كتابة الدستور الاوروبي بإشراف الرئيس الفرنسي السابق فاليري جيسكار ديستان ومساهمة عشرات المفكرين والسياسيين من مختلف الدول الأوروبية. فقد اصطدم كَتَبة الدستور الشهير عندئذ بمسألة الدين المسيحي وهل يشكل خلفية ثقافية لاوروبا أم لا؟ وبعد أخذ ورد ومناقشات صاخبة على صفحات الجرائد الفرنسية والاوروبية قرر المشاركون في كتابة نص الدستور إهمال هذه النقطة او طمسها تماماً. وهذا ما أزعج كثيراً الفاتيكان والبابا الراحل الذي صرح قائلاً: كيف يمكن لاوروبا ان تنسى جذورها المسيحية؟ كيف يمكن ان تتنكر لها؟

عيب وألف عيب. أليست هذه الجذور تضرب في أعماق تاريخها؟

ينبغي العلم بأن المشرف العام على مشروع الدستور، أي الرئيس جيسكار ديستان، شخص مؤمن على الصعيد الخاص، وكان يتمنى لو ان ديباجة الدستور او مقدمته احتوت على عبارة تشير الى القيم المسيحية بصفتها أحد العناصر المشكلة تاريخياً للهوية الاوروبية بالاضافة الى فلسفة الحداثة والتنوير. وقد وافقته دول عديدة على ذلك إلا دولته ورئيسها العلماني اكثر من اللزوم: جاك شيراك! فقد رفض رفضا قاطعاً ذكر المسيحية في مقدمة الدستور. وكذلك فعلت السويد. وعندئذ اكتفى جيسكار ديستان بتثبيت العبارة التالية: لا ينبغي ان ننسى الميراث الديني لاوروبا، هذا الميراث الذي لا تزال قيمه حية في تاريخنا. وهكذا أشار ضمناً الى القيم المسيحية دون ان يستطيع ذكرها بالاسم.

هذا الموقف هز الفاتيكان هزاً وجعله يشعر بالمرارة والحقد على ما يدعوه بالعلمانية المتطرفة. وقال ممثلوه بأن النزعة المادية الالحادية طغت على اوروبا طغياناً كاملاً في الثلاثين او الاربعين سنة الاخيرة: أي ما بعد الحرب العالمية الثانية.

ومعلوم ان البابا السابق يوحنا بولس الثاني افتتح عهده بالدعوة إلى إعادة (تمسيح) أوروبا إذا جاز التعبير أو تعريفها بالإنجيل من جديد بعد ان نسيته وتجاوزته. وعلى الرغم من شخصيته الشعبية الكاريزمية إلا انه لم يحقق نجاحاً كبيراً في هذا المجال وان كان قد نجح في القضاء على الشيوعية الالحادية. ولكنه لم يستطع أن يقضي على الرأسمالية الإلحادية التي كان يدينها أيضا في كتاباته وخطاباته مثل الشيوعية..

والآن يجيء البابا الجديد لكي يدين المشروع الأوروبي بقوة اكبر من سابقه، بل وبعنف غير مسبوق. فقد اتهم أوروبا بأنها مرتدة بالمعنى الحرفي للكلمة وأنها ارتكبت خطيئة قاتلة إذ تنكرت للدين المسيحي، دين آبائها وأجدادها على مر القرون.

ويرى بعض المعلقين الفرنسيين أن كلمة الردة هنا خطيرة جداً ولم يتجرأ عليها أي رجل دين مسيحي في هذا العصر أياً تكن رتبته ومقامه. وينبغي ان نعود الى القرن التاسع عشر عندما كانت المعارك محتدمة بين الكنيسة المسيحية والعلم الحديث لكي نجد عبارات قاسية وشديدة اللهجة من هذا النوع. ينبغي أن نعود إلى البابا بيوس التاسع الذي أصدر فتوى شهيرة عام 1864 أدان فيها أخطاء العالم الحديث وضلالاته من الليبرالية إلى الاشتراكية مروراً بالعقلانية والعلمانية وحقوق الإنسان والثورة الفرنسية وفلسفة التنوير، الخ. واعتبر كل ذلك ابتعاداً عن الله والدين ان لم يكن كفراً وهرطقة أو رجساً من عمل الشيطان.

ولم تتصالح الكنيسة الكاثوليكية مع العالم الحديث وقيمه إلا بعد مائة سنة من ذلك التاريخ عندما صدرت المقررات اللاهوتية الجريئة للمجمع الكنسي الشهير المعروف باسم: الفاتيكان الثاني والذي شارك فيه البابا الحالي عندما كان لا يزال شاباً. ويبدو انه كان متحمساً آنذاك للانفتاح على الحداثة والعصر وبعض مبادئ فلسفة التنوير. ولكنه غير رأيه فيما بعد على ما يبدو عندما رأى شطط الحريات الجنسية وغير الجنسية التي انتشرت في أوروبا، إبان السبعينات والثمانينات من القرن المنصرم.

وها هو الآن يعود من جديد إلى ساحة المعركة ضد التيار الفلسفي الإلحادي المادي الصرف. فقد صرح بالأمس القريب قائلاً: لا يمكن أن نبني بيتاً مشتركاً (أي الاتحاد الأوروبي) عن طريق إهمال الهوية الخاصة لشعوب قارتنا. وهي هوية تاريخية وثقافية وأخلاقية. انها هوية مؤلفة من مجموعة من القيم كانت المسيحية قد ساهمت في تشكيلها وبلورتها.

ثم يضيف بابا روما قائلاً: ان هذه القيم تشكل روح أوروبا وينبغي أن تبقى خميرة حضارتها. ولكن التيار العلمانوي المتطرف لا العلماني الصحيح المنفتح يريد أن يقضي على الدين قضاء مبرما ويمنع المسيحيين من التدخل في النقاش العام الدائر حول دستور أوروبا وهويتها، واتهم البابا ما يدعوه بطغيان النسبوية الاخلاقية أو بالأحرى العدمية الأخلاقية على أوروبا. والمقصود بذلك التيارات الاباحية التي تقول بأنه يحق لكل فرد ان يشكل قيمه الخاصة فيما يخص الجنس وسواه وانه لا توجد قواعد عامة أو قيم أخلاقية مشتركة ينبغي أن يلتزم بها الجميع.

هذا الكلام قاله البابا بمناسبة الاحتفال بالذكرى الخمسين لتأسيس الاتحاد الاوروبي. صحيح انه اعترف بأن هذا الاتحاد حقق بعض النجاحات على الصعيد الاقتصادي ولكنه قال بأن أوروبا ابتدأت تفقد الثقة بمشروعها وبنفسها. وأكبر دليل على ذلك الانخفاض المريع لمستوى الولادات فيها، الشيء الذي قد يخرجها من التاريخ اذا ما استمرت على هذا النحو. ثم اتهم وزير خارجية الفاتيكان البرلمان الاوروبي بمهاجمة الكنيسة الكاثوليكية أكثر من مرة والاستهزاء بها.

وقد رد رئيس وزراء ايطاليا رومان برودي على كلام البابا قائلا: لقد كنت رئيسا للمفوضية الاوروبية في بروكسل عندما تمت بلورة الدستور الاوروبي العتيد. وقد حاولت جاهدا ان اذكر التراث المسيحي في ديباجته أو مقدمته، ولكني فشلت ثم أضاف قائلا: هذه المجادلة أصبحت في ذمة الماضي الآن ولا داعي للعودة اليها ونكأ الجراح من جديد.

وأخيرا يخطئ من يظن ان هذه المناقشة الضخمة تخص أوروبا والمسيحيين فقط. على العكس، فإنها تخص العالم العربي والاسلامي في الصميم. صحيح ان الأمور معكوسة فيه الآن بالقياس الى أوروبا لأن التيار العلماني التنويري هو الأضعف بما لا يقاس وهو الذي يقف موقف الدفاع عن النفس ويطالب بحقه في الوجود. وصحيح ان التيار الاصولي التقليدي هو المسيطر على الساحة عموما، ولكن لا ينبغي ان ينسى التنويريون العرب الحقيقة التالية: وهي ان بعض التيارات الاوروبية بالغت في خط الالحاد والنزعة المادية العدمية الى درجة انها تطالب الآن ليس فقط بتشريع الشذوذ الجنسي مثلا وانما ايضا في حق الشاذين في تبني الاطفال! وبالتالي فالبابا الذي لا أشاطره كل أفكاره ليس مخطئا في موقفه هذا. بل وسأقول أكثر من ذلك: ان التنوير العربي الاسلامي لن ينجح ولن يترسخ في الارض اذا ما فعل نفس الشيء، أو اذا ما سار في طريق الانحلال الفكري والاخلاقي. وبالتالي فالتنوير الذي ندعو اليه هو التنوير المتزن: أي الذي يجمع بين القيم الروحية والاخلاقية العليا للتراث العربي الاسلامي وايضا العربي المسيحي من جهة، ثم أفضل ما أعطته الحداثة الفلسفية والعلمية من جهة أخرى.