قريباً في لبنان: رئيسان ومجلسان وحكومتان

TT

توجه لبنان الى القمة العربية التي تنعقد في الرياض، بوفدين، كل يقول انه يمثل الشرعية. لم يجرؤ أي وفد على القول إنه يمثل الشعب اللبناني، اذ درجت العادة في لبنان ان ينصرف الشعب «المُهمل» فعلياً من حماية «الشرعية» الى البحث عن رزقه ومشاريعه وتأشيرات خروج هرباً من «الشرعية» ، تاركاً لـ«ارباب الشرعية» الانصراف الى المهاترات داخلياً، ونشر غسيلها القذر جداً في الخارج. فالشعب «قرف» من الكل.

ليس ما أقدم عليه وفدا «الشرعية» هو ما يؤلم، فهو بمثابة تمرين على الخطوة التي ينوي القيام بها كل منهما مع اقتراب الاستحقاق الرئاسي في لبنان. ولمن يهمه الأمر من الدول العربية، وبالذات السعودية التي ينعقد فيها مؤتمر القمة العربية، فإن لبنان يتفتت كنظام، ويتفتت كبلد. موارده العامة تضيع، 30% من شبابه يهاجر، وقريباً سيتحول الى بلد من العجائز، يستورد العمالة الرخيصة، ويسبح في الفساد، كقطاعين عام وخاص.

إن لبنان، الذي يتجلى عبر وفديه الحفاظ على «الشرعية»، سيكون هذا العام برئيسين وحكومتين وبرلمانين. والحالة الشيعية ـ السنّية فيه قد تفجر أوضاعه، وتغيّر خريطته، وسيكون فيه مطاران: مطار رفيق الحريري، ومطار رينيه معوض الذي سيُفتتح في منطقة عكار قريباً.

يتخوف البعض من الفيديرالية، نطمئن هذا البعض وخصوصاً «الشرعية»، بأن لبنان مقبل على تقسيم ويتجه الى حرب. هناك انشطار واضح ومخيف. وتنتشر الكثير من الإشاعات، ولا دخان من دون نار، عن تهريب الاسلحة براً وبحراً وجواً. والقول «التخديري» ان اللبناني لن يستخدم السلاح ليس بصحيح، هو على استعداد لاستخدامه وينتظر رفع الغطاء الاقليمي والدولي لبدء المعركة. انما، كما يبدو، فإن الارادة الاقليمية والدولية هي بعدم ايجاد حل وتأخير اشتعال الحرب، والاتفاق هو: مكانك راوح يا لبنان. والذي يتردد في لبنان ان الانفجار سيقع اثناء انتخابات رئاسة الجمهورية: إما يتم انتخاب الرئيس باتفاق، او ينفجر الوضع، وسيبقى البلد كله معطلاً بكلفة اقتصادية ونفسية وهجرة متزايدة وهي تسود كل الطوائف، حيث تختار الطائفة الشيعية الهجرة الى اميركا.

العلمانيون في لبنان لا يعترفون بما يسمى أزمة سنّة وشيعة، يقولون: هناك قادة للسنّة وقادة للشيعة. قادة الشيعة في العراق مع اميركا، وقادة الشيعة في لبنان ضدها. اتباع هؤلاء القادة في لبنان يسيرون وراء الزعيم. هناك ولاء هائل للرموز الدينية او السياسية في لبنان.

يقول لي أحد الخبراء اللبنانيين: اننا لا نسأل الدروز في لبنان مع من يقفون. بل اين يقف زعيمهم وليد جنبلاط. اليوم هو مع اميركا، وامس كان مع سوريا ومعظم الدروز ساروا معه. الولاء هنا ليس للطائفة إنما للزعيم.

اشتهر الزعماء اللبنانيون بالاتكال على الخارج، لكن حالياً لا يستطيع الزعيم اللبناني، اياً كان، القيام بمواقف عكس الخطة الأساسية التي تعمل على ضرب الشيعة والسنّة. ويروي لي «جواد عدرا» مدير مؤسسة «الدولية للمعلومات» في بيروت ان «الماضي يشبه الحاضر، ومن يقرأ جمال باشا الحاكم العثماني للبنان يلاحظ انه اعتبر ان الملك فيصل الاول خانه، ويقول: لم اكن اعتقد بأن احداً من سلالة الرسول ينزل الى هذا الدرك من الانحطاط...»، لكن الملك فيصل الاول رأى في ذلك الوقت ان مملكة عربية ستبرز، ويكون هو زعيمها وهذا لخير المنطقة، وكانت المسألة حسابات وليس خيانة او ولاء.

ويضيف عدرا: اما لورانس العرب فيقول في مذكراته: «ان الكبار كذبوا عليّ، وانا كذبت على الآخرين. انا لم اقصد، ولم اكن اعتقد بأنه ستكون هناك معاهدة سايكس ـ بيكو». ويقول عدرا: «المهم ألا يكرر التاريخ نفسه. فاذا تقسّم العراق، او اذا حصل انشطار اعمق او تباعد اكثر ما بين السنة والشيعة، فهذا لا يعني ان اميركا مع السنّة وايران مع الشيعة. الطرفان خاسران والرابح هو المخطط».

لكن هذا لا يصدقه بعض اللبنانيين، إذ بدأت تظهر سابقة خطيرة في بيروت، فالسنّي المقيم في منطقة شيعية غادرها، والعكس يحصل ايضاً، وتتراوح نسبة التطهير العرقي الاختياري ما بين 5% و8% .

زعماء لبنان اقوياء على الشعب (حفاظاً على مصالحهم ومناصبهم)، ضعاف امام بعضهم، ويستقوون بالخارج. واليوم كما يقول جواد عدرا: «اذا غيّر الجنرال ميشال عون تحالفاته، سيغير وليد جنبلاط من تحالفاته». انها لعبة النظام اللبناني الذي يثير اعجاب العالم، يعتقدون بأنه بلد خيالي، يتقاعد السفراء فيه، يحب الصحافيون الاجانب مناطقه وتشعباتها وجمالها، لكنه بلد حقيقي، وهذا مؤلم لشعبه، حيث لا مؤسسات ولا قانون ولا نظام.

اقول: ان مشكلة لبنان بزعمائه.. ويشدد جواد عدرا على «ان ناسه جيدون والله».

ويجلس الوفدان اللبنانيان في قاعة القمة العربية في الرياض. وكل منهما يخطط كيف سيعرقل توجهات الآخر واهدافه. صارت اللعبة شخصية. يستقيل وزير الخارجية الاصيل (فوزي صلوخ) لكنه يصبح غير مستقيل عندما تدعو الحاجة الى وجوده «نكاية». الوزير المكلف القيام بدور وزير الخارجية (طارق متري)، هو الآخر يريد ان يكون موجوداً، فالحاجة الى وجوده لم تنتف حتى لو حضر الاصيل ــ المستقيل. هذا جزء من النظام اللبناني الذي سيصبح قريباً برئيسين، وحكومتين، ومؤسسات مزدوجة.

في احدى مسرحيات الاخوين رحباني، يهاجر الشعب، ويترك مفاتيح بيوته مع «ناطورة المفاتيح»، فيروز. في لبنان الحالي، لا بيوت، ولا مفاتيح، وسيبقى النواطير حراساً لـ«الشرعية» فيحملونها في حقائبهم اذا سافروا الى المؤتمرات، ويعودون بها، انها عدة شغلهم.

لكن، ماذا اذا حصل تفاهم ايراني ـ اميركي؟ لبنان ينتظر اجتماع اسطنبول، وبعده يتجه الى انتخابات رئاسية. سمير جعجع قائد القوات اللبنانية يقول: لا نريد الثلثين لانتخاب رئيس، الدستور يقول بضرورة الثلثين.

عام 1982 كان في استطاعة الشيخ بشير الجميل ان يصبح رئيساً بتصويت الاكثرية، لكنه بذل كل جهده ليأتي بثلثي النواب، بعدما كان استشار خبيراً دستورياً فرنسياً فقال: «يجب ان تأتوا بالثلثين». الآن، وربما جعجع من المعتقدين بأنه لتجنب الفراغ الدستوري لا حاجة للثلثين. وكان رئيس الحكومة فؤاد السنيورة قال لفضائية «العربية» إنه في حل من التزامه مع نبيه بري رئيس مجلس النواب المهجور، وانه سيقدم قانون المحكمة باغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري الى المجلس اياه!

اذا لم يحصل تفاهم لبناني في القمة العربية الحالية، ووصل القانون الى المجلس، ووافق عليه سبعون نائباً (دستورياً هذا غير ملزم) فهناك حاجة للثلثين اي 84 نائباً، لكن اذا إتخذ القرار بارسال الموافقة الى الامم المتحدة، سيأتي نبيه بري ويعقد جلسة اخرى، فيصبح اللبنانيون امام برلمانين: واحد برئاسة بري، وآخر برئاسة نائبه فريد مكاري. الموالاة تجس النبض منذ فترة وتلمّح الى الامر، وهذا ما دفع الاسبوع قبل الماضي نبيه بري الى عقد مؤتمره الصحفي الشهير. وربما هو استشعر الخطر اكثر عندما توجه وفدان الى القمة، فطلب من النائب غسان تويني صاحب صحيفة «النهار» نقل رسالة الى البطريرك الماروني مار نصر الله بطرس صفير لإبلاغه بأنه يرغب في قانون انتخابي: «كما يريد غبطته».

الدكتور بول سالم مدير «معهد كارنغي للسلام ـ فرع لبنان» يرى الوضع بمنظار تفاؤلي اكثر. اذ ان «الاجواء التوافقية مكسب لتهدئة الوضع لكن للأسف لم نستطع التوصل من خلال اجتماعات نبيه بري وسعد الحريري زعيم الاكثرية النيابية الى اتفاق على الحكومة والمحكمة كي نعود الى حياتنا الطبيعية. انما قطعنا شوطاً كبيراً بفضل الجهود السعودية والتعاون الايراني».

تفاؤل سالم منطلق من ان لبنان كان على شفير حرب اهلية وصار اليوم تقريباً على مشارف استمرار اللقاءات.

لكن، ماذا اذا استمر الوضع على هذا المنوال حتى الاستحقاق الرئاسي بحيث يكون في لبنان رئيسان وحكومتان؟ يجيب سالم: «هذا يسمى انهياراً. لكن الكل واع بأنه يجب ان يتحقق كل شيء قبل موعد الاستحقاق الرئاسي، فاذا وصلنا الى ذلك الموعد، والمجلس النيابي لم يجتمع، والحكومة غير فاعلة، نكون وصلنا الى استحقاق هو في الواقع مناسبة للاختلاف والانقسام والدخول في ازدواجية المؤسسات، وفكفكة البلاد ونكون امام اسوأ النتائج».

إذن، الحالة الحاضرة قاتمة، واذا ظلت هكذا حتى الاستحقاق الرئاسي، يكون لبنان قد عاد الى اجواء زمن الحرب، بمعنى غياب المؤسسات وبالأخص مرحلة اعوام 1988 ـ 1990 عندما كانت فيه حكومتان، لكن، وكما يقول سالم: «ان لبنان استمر. هو لن يختفي، بل نكون وصلنا الى اسوأ النتائج. هذا لا يعني وقوع حرب اهلية انما يزيد الخطر ويمكن ان يترجم الى حرب اهلية».

اجواء الحرب الاهلية لا تزال مخيمة، يساعد على ذلك السلاح في يد «حزب الله» ووصوله الى اطراف اخرى. كما ان هناك المحكمة، وهذه تفاصيل اتركها للاسبوع المقبل.

ذهب لبنان بوفدين الى القمة في السعودية، في اليوم الذي جرى فيه حدث تاريخي في ايرلندا الشمالية، عندما اتفق ايان بايزلي زعيم الاتحاديين الديموقراطيين المطالبين بالبقاء مع بريطانيا وجيري آدامز زعيم «الشين فين» المطالبين بالاستقلال. جمعهما تهديد بريطانيا بأنها ستترك كل الاطراف الايرلندية لحالها، وستغلق برلمان ايرلندا الشمالية، وتقطع رواتب نوابها، وتدير ظهرها وتسمح لايرلندا الجنوبية بأن تكون لها اليد العليا هناك، اذا لم يتفق الطرفان اللذان يعتقد كل واحد منهما بأن الشيطان مجسّد في الآخر.

مرة ثانية، منا لمن يهمه الامر، حتى ولو كان... بريطانيا.