القذافي: تحسين السلوك أمام الشكوك

TT

لو كان الرجل مؤمنا حقا بالأفرقة لتحدث إلى تلفزيون غوادودو، شكرا لتلفزيون «الجزيرة»، فقد عثر عليه على هامش القمة. كان الرجل كما يقول المصريون «عريس الغفلة، والباب بلا قفلة».

لم آخذ في حياتي الصحافية الطويلة القذافي على محمل الجد. أظن أن أهل القمة كانوا بحاجة على فاصل تسلية يروح على النفس. يخفف من جراحة الجدية التي أراها تطبع الوجوه.

وأحسب أن الرجل أدى دوره، فقد أعادت مسرحيته الكلامية الابتسامة إلى الوجوه.

شكلا وموضوعا، القذافي كوميديا جادة، أو ما يسميه نقاد الفن في الغرب «الكوميديا السوداء». رجل يهزل في ساعة الجد. قال إنه سيبقى تحت. لن يعمد إلى الرياض لأنه تعرض إلى «اعتداء» في شرم الشيخ. ماذا حدث له هناك؟ عندما بدأ دوره التقليدي في المزايدة «القومية»، عندما بدأ يتطاول على أقدار الرجال، أسكته العاهل السعودي بسؤال العارف البسيط: «وأنت من أتى بك؟».

ليس المجال هنا اليوم للحديث عن ملابسات الانقلاب الذي أوصل ضابطا برتبة ملازم صغير الرتبة الحكم في بلد مترامي الأطراف تحتله دولتان كبيرتان، انما يكفي أن اذكّر بأن فاتحة عقد السبعينات شهدت سلسلة انقلابات عربية، وبينها انقلاب القذافي، رفعت شعارات عبد الناصر القومية، وجاءت بديلا مشكوكا فيه لترسيخ المحلية القطرية، ولضرب مشروعه الوحدوي، وبينها أيضا انقلاب القذافي، ولتبتذل الوحدة بمشاريع وحدوية صورية. وها هي هذه الانقلابات كلها قد انتهت من حكم القبيلة، إلى حكم العشيرة والطائفة، إلى حكم الأولاد والعائلة.

أليس من حق عبد الله بن عبد العزيز، إذن، أن يسأل بأدب العاقل الغاضب: «وأنت من أتى بك؟» الجواب عند «القائد التاريخي» أنه تعرض إلى اعتداء، ولا يمسح الاعتداء إلا بتجميد عضوية السعودية في الجامعة العربية، لإزالة «آثار العدوان». هل هذا كلام يصدر عن قائد، ويترتب عنه إلغاء التخييم على القمة، أم هو فصل من فصول لـ «الكوميديا السوداء»؟

السياسة عند القذافي عملها «مؤامرات». لا يريد أن يشترك في «قمة المؤامرة» على إيران والفرس. هل كل هذا الاختراق الفارسي للعرب لا يجيز لهم القول، بأدب الجار في التعامل مع الجار: كفى. على إيران احترام إدارة العرب لشؤونهم وعدم التدخل لتفريقهم؟ بات القذافي غيورا على الهجمة الفارسية، فيما كان أول نظام عربي قاطع نظام الخميني مديناً له بتنفيذ «المؤامرة العالمية» لتغييب موسى الصدر الزعيم الروحي الموفد من إيران إلى لبنان لسحب شباب طائفته من الأحزاب القومية واليسارية اللبنانية، ومن تنظيمات المقاومة الفلسطينية. ولم يتم الصلح إلا بعدما نقلت وكالة الأنباء الليبية «كلاما كوميديا» للقذافي يعلن فيه أنه «قريب الخميني» بالحسب والنسب.

العربي لا يخرج من جلده. قد يتخلى العربي عن جنسيته، لكن لا يتخلى لأي سبب كان عن هويته وانتمائه وجذوره. ليبيا ستبقى عربية. العروبة ليست سياسة. إنها انتماء لأمة تاريخية. «العرب لم ينفعونا». تقول الكوميديا القذافية. هنيئاً للأخوة الأفارقة بالمتأفرق الجديد. يكفي العرب ما عانوه من المغامرات الليبية. يكفي أن أذكر بالمال الليبي الذي تدفق على لبنان. أطال المال الليبي الحرب الأهلية ستة عشر عاماً. دفع الثمن 150 ألف لبناني من أرواحهم. عندما عرقل القذافي تنفيذ «الوثيقة الدستورية» عام1976، وقتل الزعيم المعارض لها كمال جنبلاط، ثم تغييب الصدر بعد زيارة إلى ليبيا، لأن الصدر كان معارضا لإطالة أمد الحرب.

أمضي مع رحلة الكوميديا السوداء. لن يذهب القذافي بخيمته وجمله إلى القمة لأنها قمة «المؤامرة» على مشروعه «اسراطين» يريد دولة يهودية وفلسطينية عضواً في الجامعة العربية. حسناً، لماذا لا نذهب ويفرض المشروع على قمة الرياض. نضع عريضة للتسمية في تلفزيون «الجزيرة». هل المشروع العربي بمبادلة الأرض في مقابل السلام لا يصلح لمبادرة؟ لا أدري! لإحباط المبادرة يهدد القذافي بطرد الفلسطينيين الغيور عليهم. كلما تعرض «لاعتداء» عليه هدد بالضرب والطرد. طرد الفلسطينيين. طرد المصريين. اضطهد الأفارقة الضيوف عنده في عام 2000. إلى متى يظل العامل العربي المهاجر رهينة تقلبات السياسات الكوميدية؟ لم يطرد عرب الخليج مليوني عامل مصري عندما اختلفوا مع السادات. العربي المهاجر له حقه على البلد الضيف في الاحترام والمعاملة الطيبة، لا أن يظل قلقاً على رزقه وحياته وحياة أسرته بسبب تقلبات السياسة.

مازلت مع الكوميديا السوداء. القذافي يقول على مسرح «الجزيرة» إنه «يصرف على شعبه». هل كان دفع 2.7 مليار دولار لأسر الطائرة الأميركية المنكوبة إنفاقا لدفع البلاء عن الليبيين، أم عن نظام يكافح من أجل البقاء. هل تمويل المراهقات السياسية في العالم الذي استنفد موارد ليبيا الضخمة إنفاق على الليبي المسالم في أرضه ووطنه؟

وكل نظام القذافي المحامي الأميركي اليهودي إبراهام صوفاي في قضية الطائرة المنكوبة. تمكن المحامي الذي كان مستشاراً قانونياً لوزارة الخارجية من حل «العقدة» مع الحكومة الأميركية. جاء يهودي اسمه يعقوب نرودي يغري القذافي بزيارة إسرائيل بعد الصفقة. أغرت التعويضات التي نالتها عائلات ضحايا الطائرة، ومعظمهم من يهود نيويورك، ستة ملايين دولار لكل عائلة، أقول أغرت فداحة التعويضات اليهود للمطالبة باستعادة أملاكهم التي باعوها في ليبيا قبل المغادرة، أو لتدفيع الرجل الساذج مليار دولار آخر.

ما حل بصدام جاء درساً لرجل «المبادئ» الآخر. بيعت الشعارات الثورية بالتكيف مع «الشرعية الدولية». يقصد القذافي بالطبع «الشرعية الأميركية». يخلّد القذافي صدام حسين بتمثال، لكن يصالح أميركا، يدمر مشروعه النووي الذي كلفه مئات ملايين الدولارات. يفتح حقول النفط والغاز للشركات الأنجلوأميركية، يطلّق صحارى العرب، ويدخل الغابة الأفريقية.

نعم، وأنت من أتى بك؟ كم هو السؤال البسيط صادقا؟

مسكين جمال عبد الناصر، رأى في القذافي «شبابه». أوفد هيكل الى الملازم قائد الانقلاب. عاد المستشار المحنك ليحدث زعيمه عن «سذاجة» الملازم المراهق. كانت وصية عبد الناصر للقذافي قبل أن يغمض عينيه: «الصبر، الواقعية».

القرارات المشوشة رسمت القذافي في مرحلة المراهقة منظرا ومفكرا يخترع «نظرية» تصلح للتطبيق، أين؟ في السويد وسويسرا، وليس عند العرب وليبيا. بعد النظرية «الثالثة» والكتاب الأخضر تأتي المغامرات السوداء، قتل، نسف، اغتيالات، قمع، تمويل منظمات الإرهاب في العالم.

ثم تأتي مرحلة الندم والتوبة والاستغفار لأميركا . الهدف اليوم هو تحسين السمعة ، وأدب السيرة والسلوك أمام «الشرعية الأميركية» وليس أبدا أمام العرب وأهل القمة في الأيام الصعبة.

نعم، وأنت من أتى بك ؟

آه، كم العرب في حاجة الى زعماء وقادة يرتقون الى مستوى المسؤولية في الزمن الصعب. يسلّي القذافي العرب، لكنهم يستحقون مع ليبيا زعماء أفضل، زعماء مطالبين بأن يكونوا فوق ذكاء العربي العادي، لكن ليس بأدنى من ذكائه. حان لنظام السبعينات العربي أن يقدم لأمته زعماء ورؤساء يتمتعون بذكاء المواطن العادي، لا أكثر لينقلبوا عليه ولا أقل ليسخر منهم أشخاص وسياسات.

وداعا للعربي المنسلخ من جلده، وداعا للعربي المهاجر الى الغابة، وداعا لحاكم لم يعد همه سوى تحسين أدب السلوك درءا للشكوك، لشكوك أميركا بوش والغرب في ولاءاته المتقلبة.