عاجل للقمة : الاهتمام بالمياه مطلب عالمي وعربي تحديدا

TT

من بين التعداد الحالي لسكان العالم البالغ قرابة السبعة بلايين نسمة، هناك بليون ومائتا مليون نسمة لا يحصلون على إمدادات المياه الصحية. وتمثل هذه الحقيقة هاجسا يؤرق البشرية. وذلك أمر طبيعي طالما أن أهمية المياه لا تقتصر على صحة الإنسان ورفاهيته، بل تتعداها إلى التأثير بشكل ملموس على الأمن الغذائي والتنمية الصناعية والنظم الإيكيولوجية التي تعتمد على توفر الموارد المائية. فالمياه على قدر كبير من الأهمية بالنسبة لطائفة عريضة من النشاطات البشرية، من زراعة إلى استزراع سمكي وتوليد طاقة وصناعة ونقل وسياحة وترفيه.

وقد أدت الضغوط الديموغرافية المتنامية وارتفاع مستويات الدخل عالميا إلى ارتفاع معدل الطلب على إمدادات المياه. ومن ناحية أخرى، أدت هذه الأسباب نفسها إلى ارتفاع نسبة تلوث المياه. وهنا تكمن ازدواجية المعضلة. إضافة الى أن الاستهلاك في القرن العشرين وحده ضاعف الطلب على المياه بواقع سبعة أضعاف. لكن التعداد السكاني لم يزد سوى بمعدل ثلاثة أضعاف على امتداد نفس الفترة الزمنية ـ أي القرن العشرين، ويرجع زيادة الطلب على المياه أساسا إلى ارتفاع مستويات العيش الناتجة بدورها من التنمية الاقتصادية الاجتماعية. ويفاقم من قتامة الصورة الاستنزاف الناجم عن الاستهلاك الزائد، إلى جانب ارتفاع نسبة الأنشطة البشرية ذات التأثير البيئي غير المرغوب، وخاصة التلوث.

هكذا تصبح إرهاصات الأزمة المقبلة شديدة الوضوح: تدن في مستوى المياه الجوفية، انخفاض في منسوب الأنهار والبحيرات، تلوث بنسب كبيرة، وتصحر بخطى مستمرة.

* استخدامات جديدة لموارد قديمة :

وعلى الرغم من قتامة هذه الصورة، فإن الأمم المتحدة، وهي الهيئة الأكثر اهتماماً بالأمر من منطلق مسؤوليتها المحددة بموجب ميثاقها، ترى ضرورة تبني آلية جديدة لاستخدام وإعادة استخدام المياه.

ويلاحظ أن المياه العذبة تتجدد بصورة بطيئة لا سيما أن (72) في المائة منها يوجد في الأحواض الجوفية، بينما واحد في المائة فقط يأتي من الغلاف الجوي (في شكل أمطار أو تساقط الجليد) أو من المجاري المائية أو البحيرات. وهذه النسبة الأخيرة (أي واحد في المائة) هي التي تتجدد بصورة مستمرة نسبيا. وحسب المصادر العلمية لمنظمة اليونسكو، فإن الاستهلاك العالمي من المياه العذبة بلغ (5190 كيلومترا مكعبا) بحلول عام ألفين (مقارنة بحوالي 1360 كيلومترا مكعبا في عام 1950م). ولعلنا نستطيع أن نجزم، بقدر كبير من اليقين أن التلوث بفعل النشاطات البشرية يطال كمية مماثلة من المياه. ونجد أنفسنا مندفعين إلى التقدير بسبب الشح الذي تتسم به معلومات المياه في الكثير من بلدان العالم. إذ أن الغالبية العظمى من الدول تتحاشى الإفصاح عن الحقائق البيئية المتعلقة بموارد المياه، إما لارتباطها بالأمن الغذائي أو لانعدام القدرات والتقنيات الفنية اللازمة للقيام بعمليات جمع المعلومات و تحليلها.

ومن هذا المنطلق تأتي أهمية برنامج الشراكة العالمية في المياه، وهو مشروع يدعمه كل من برنامج الأمم المتحدة الإنمائي والبنك الدولي والبرنامج الدولي لإبحاث تقنية الري. ويسعى برنامج الشراكة العالمية في المياه إلى تشجيع وكالات الدعم الخارجية والحكومات والشركاء الآخرين على تبني سياسات ومشاريع متجانسة ومتكاملة، وإلى تطوير آليات لتبادل المعلومات والخبرات في مجال إدارة المياه، وإلى التوصل إلى حلول فعالة ومبتكرة، بما في ذلك تعزيز القدرات المؤسسية، لمواجهة المشاكل المتعلقة بتنفيذ برامج إدارة المياه وتعميم السياسات العملية القائمة على هذه الحلول.

وفي يومنا الراهن، نجد أن الزراعة تستهلك (69) في المائة من المياه في العالم، بينما تستهلك الصناعة (23) في المائة، والاستخدامات المنزلية تستأثر بحوالي (8) في المائة فقط. لكن هنالك بعض التباينات الإقليمية في هذه النسب.

فمثلا الأنشطة الزراعية في الدول النامية تستهلك إلى (80) في المائة. فمن المتوقع أن يشهد الطلب على المياه لمواجهة الزيادة في سكان المدن، وللتوسع الصناعي والسياحي، ارتفاعا ملحوظا لا يقل بحال عن الارتفاع الموازي الناجم عن الحاجة لمضاعفة إنتاج الأغذية لإطعام سكان العالم.

وعلى مدى سنوات ممتدة من بداية القرن العشرين إلى السبعينات منه، كانت مشكلة المياه تبدو كما لو أنها مشكلة فنية تستدعي حلا فنيا من قبيل بناء المزيد من السدود أو إنشاء مرافق تحلية المياه المالحة. وقد ظهرت، من وقت لآخر، ثمة حلول عبقرية ـ إن لم نقل متطرفة ـ من شاكلة سحب كتل الجليد من القطبين الجنوبي والشمالي لإذابتهما في أماكن شحيحة المياه.

لكن الحلول الفنية تم استنفادها تماماً.

القرن الواحد والعشرين: مشاكل مياه مستعصية:

تبدو نذر النزاعات في المستقبل شديدة الوضوح؛ وبالغة التهديد. وفي هذا الصدد يتمثل الهاجس الرئيسي في عدم المقدرة على الحد من التلوث بوتيرة تتسق مع معدل النمو السكاني. ويعزى القصور في هذا الجانب إما إلى ضعف الإمكانيات الفنية أو انعدام الموارد المالية أو الافتقار إلى الجرأة على مراجعة المألوف من قرارت سياسية ذات أبعاد اجتماعية.

ومن ثم ستقع العديد من البلدان، في المستقبل المنظور، في صراع حتمي: إذ أن زيادة إمدادات المياه لطرف واحد ستؤدي إلى حرمان طرف أو أكثر من حصته المقررة سواء بالعرف أو القانون الدولي، وبدلاً من أن تصبح المياه عاملاً لتحقيق التنمية، فسوف تتحول إلى عنصر إشعال نيران حروب إقليمية ليس من السهل إخمادها.

* والشرق الأوسط ليس استثناءً:

وتعتبر منطقة الشرق الأوسط برمتها نموذجاً على إمكانية وقوع نزاعات إقليمية مستعصية في المستقبل القريب. وعلى امتداد الثلاثة عقود الأخيرة ظلت مشكلة المياه تظهر وتختفي من حين لآخر في المنطقة. وفي السبعينات من هذا القرن كانت منطقة الشرق الأوسط (وشمال إفريقيا) هي أول منطقة في العالم تعاني عجزاً حاداً في إمدادات المياه، بمعنى عدم قدرة أغلب دولها على استيفاء متطلباتها من المياه.

ومقارنة المنطقة العربية بمناطق أخرى في العالم، نلاحظ أن (21) في المائة من سكان الدول العربية لا يجدون منفذاً للمياه النقية والمرافق الصحية الأساسية.

* الماء والأزمة المتوقعة في الوطن العربي

برغم المساحة الشاسعة التي يشغلها الوطن العربي إلا أنها تقع في المناطق المناخية الجافة وشبه الجافة حيث تشكل هذه المناطق ما يزيد على 90 بالمائة من المساحة الإجمالية للوطن العربي ويقطن هذه المساحة الجغرافية ما يزيد عن 300 مليون نسمة يتركز معظمهم في المناطق ذات الموارد المائية الدائمة.

وتتمثل الموارد المائية في المنطقة العربية بالأمطار التي تبلغ كمية هطولها ما يربو على 2200 مليار م3 سنوياً. تتوزع هذه الكمية بشكل غير منتظم حيث تتراوح نسبة سقوطها بين 1500 ملم سنويا في قليل من المناطق إلى نحو 5 ملم سنويا في أجزاء كبيرة من هذا الوطن. أما المورد الثاني للمياه في الوطن العربي فهو الماء الجوفي.

والوطن العربي بإمكانيته المائية الحالية وبالمتغيرات المستمرة على أرضه مثل تزايد السكان، التوسع الزراعي والصناعي يعني الاحتياج المتنامي إلى موارد مائية جديدة، كما هو مهدد لاستنفاد بعض الموارد المائية الحالية مثل المياه الجوفية أو تدهور نوعية المياه بسبب التلوث البيئي لتصل إلى الدرجة التي تحول دون استخدامه.

وما يبين مستوى الضغوط الواقعة على المجتمع العربي ومدى تعرضه للمخاطر هو نصيب الفرد من هذه الموارد المتجددة. وبالنظر إلى الأزمة المائية التي يمر بها الوطن العربي والتي ما زالت في بدايتها، فإن البحث عن ثمة حل جذري وعملي في نفس الوقت من الضرورة بمكان. ولعل في جامعة الدول العربية التي كان ولا يزال دورها هامشياً إلى حد.. ما ـ عدا بعض المواقف التي تعد على أصابع اليد الواحدة ـ منذ تأسيسها، أقول لعله أن يكون لهذه الجامعة دور أكبر في إيجاد الحلول المرجوة لأزماتنا الحالية والمستقبلية، فبدون التعاون بين هذه الأقطار العربية سوف يرزح كل قطر تحت وطأة أزماته ولن يجد مناصاً من اللجوء إلى أمم أخرى لا يمكن التنبؤ بمغبة الاعتماد عليها.

كما أن الاعتماد على التقنيات الحالية في معالجة المياه أو إعذاب مياه البحار بشكلها الحالي أمر يدعو إلى القلق وذلك عائد إلى ارتفاع التكلفة ومحدودية الإنتاج. لذا فإن البحث عن تقنيات بديلة بات حاجة ماسة لا يمكن التباطؤ في البدء بتأسيس آلياتها، مثل تأسيس مراكز البحث العلمي التي تعنى بالمياه وإعذابها على مستوى الدول ذات الحاجة إلى مثل هذا المصدر، عوضاً عن المراكز الصغيرة التي لا تمكنها ميزانياتها أو الخبرات المتوفرة بها من النهوض بهذا النوع من البحوث الهندسية. وأعود مرة أخرى إلى ضرورة التعاون والتضافر على مستوى العالم العربي أجمع خاصة أن الأزمة المائية قد تكون مسبباتها من خارج الوطن العربي مثل الأزمة القائمة الآن في حوض دجلة والفرات والتي تسببت بها المشاريع الضخمة التي أقامتها تركيا، هذا بالإضافة إلى المشاكل الأزلية مع إسرائيل، والتخوف من أن ينال منابع النيل لشيء من التحويل أو ارتفاع معدلات التلوث في مياهها.

هذا من ناحية ـ من الناحية الأخرى فإنه يتحتم على الوطن العربي الآخذ في أسباب تخفيف وطأة هذه الأزمات البيئية والتي تأتي أزمة المياه على رأسها ومن هذه الأسباب ... إيقاف الانفجار السكاني، والتخطيط السليم للمستقبل الزراعي والترشيد في الاستهلاك ورفع مستوى التعليم... الخ.

وسيظل العالم العربي يعيش تحت وطأة أزماته المختلفة، ما لم يلتفت إليها بشكل جاد وعلمي مدروس ويضع حداً لتفاقمها ومن ثم حلها بشكل صحيح وجذري.

المياه ... وبحر من المشاكل

من المتوقع أن يكون عطش العالم وتطلعه للمياه أحد أبرز القضايا الملحة في القرن الواحد والعشرين ذلك ما توقعه تقريرالموارد العالمية لعامي 98/99 وهو إصدار مشترك عكف على إعداده معهد الموارد العالمية وبرنامج الأمم المتحدة للبيئة وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي والبنك الدولي. وتولت مطبعة جامعة إكسفورد طباعته وتوزيعه على نطاق واسع وعلى الرغم من الصورة القاتمة التي يرسمها ذلك التوقع إلا أنه يستند إلى حقيقة ينبغي عدم إغفالها: ألا وهي أن الاستهلاك العالمي للمياه قد تضاغف ست مرات بين السنوات من 1900 إلى 1995م أي أكثر من ضعف الزيادة السكانية في نفس الفترة.

يضاف إلى ذلك أن سدس سكان العالم البالغ عددهم 7 بلايين نسمة يفتقرون إلى مياه الشرب النقية، وتعتبر هذه الحقيقة هاجسا آخر يزيد من قتامة الصورة المستقبلية وفي الوقت الذي يستطيع فيه الإنسان أن يبحث عن بدائل للطاقة مثلا، فهو غير قادر على العيش دون مياه. لكن موارد المياه العذبة محدودة إلى حد بعيد وإن كانت مشكلة المياه سوف تؤرق العالم بأسره، فإنها بالنسبة لنا في العالم العربي كالشوكة في الخاصرة وقد تطرق لهذه المشكلة المؤتمر العربي الدولي لوزراء الموراد المائية الذي استضافته فرنسا في مطلع اغسطس 2000م. إذ أكد المؤتمر، والذي شارك فيه أكثر من 60 خبيرا من 27 دولة عربية وأجنبية، أن هناك حاجة ملحة إلى ترشيد إستخدامات المياه بتوظيف الطرق الحديثة للري وتعظيم الاستفادة من الموارد المائية المحدودة للغاية في العالم وقد أدرجت توصيات ذلك المؤتمر ضمن الرؤية العربية لمستقبل المياه في هذا القرن الواحد والعشرين.

وربما لا نجد مبررا يكفي للتفاؤل بمستقبل المياه في العالم العربي. لا سيما أن ثقافة ترشيد المياه لا تزال ثقافة غير دارجة وبالتالي تقتصر على الشرائح المتخصصة ممن يعنيهم الأمر. وإذا بدأنا بأنفسنا في المملكة، نلاحظ أن ظروفنا الطبيعية تنطوي على محاذير عديدة يجب أن نسمعها بإذن واعية، حيث يتدني رصيدنا من مخزون المياه الجوفية ويزيد اعتمادنا على تحلية مياه البحر المالحة، وتؤدي عمليات تحلية المياه المستخدمة حاليا في 21 محطة في المملكة إلى زيادة فاتورة المياه التي تقع في النهاية على كاهل الحكومة. ومع ذلك يتم استهلاك المياه بصورة فيها من البذخ والتبذير ما لا تقف عليه العبارة.

وقد أدركت الحكومة أبعاد هذا الاستهلاك الجائر فبادرت مؤخرا بحملة توعية واسعة النطاق ونؤمل أن تصبح هذه الحملة عادة سنوية تعزز في وعينا الجماعي ضرورة المحافظة على المياه من أجل مستقبلنا نحن ومستقبل الاجيال القادمة.

* أستاذ مشارك بعلم البيئة جامعة الملك عبد العزيز ـ جدة