الدنيا (حك جحوش)

TT

توجد لي معاملة في إحدى الدوائر الحكومية، أخذت تدور وتحور، وتطلع وتنزل يوما وراء يوم وشهرا وراء شهر، وسنة وراء سنة، إلى أن كادت تنبت في رأسي نخلة، من شدة القهر والإحباط واليأس، خصوصاً عندما تصل إلى عنق الزجاجة، التي يقف في وسطها (كسدادة الفلين) احد الموظفين، الذي لا يتعب ولا يفتر من إرجاعها بكل بساطة من حيث أتت. إنه رجل معقد، وأكثر ما يفرسني به هي ابتسامته الصفراء، التي لا تفارق وجهه، وكلما راجعته وترجيته، خصوصاً أن كل الشروط النظامية قد استوفيتها، كان سامحه الله لا يقابلني بغير تلك الابتسامة، مع التفضل علي «بفنجال» من الشاي من دون أي كلام.

وفي يوم من الأيام وبعد أن بلغ بي الضيق منتهاه، أخذت أفضفض لأحد الأصدقاء عما يعتمل في نفسي، وهو بالمناسبة (فرخ) ـ أي ذكي وألمعي ـ وقد سألته عن الأحكام الجزائية التي تصدر ضد الشخص الذي يعتدي على شخص آخر، سواء بالقذف أو الضرب أو الطعن أو القتل؟! وسألته عن غرف السجون ومدى ضيقها أو رحابتها، وهل ينام المحكوم فيها على سرير أم على الأرض؟! وهل السجانون يتمتعون بمواصفاتنا البشرية أم هم (غير شكل)؟!

كل هذه الأسئلة وغيرها وجهتها لذلك الصديق، استعداداً وتحسباً لما سوف أقدم عليه ضد (سدادة الفلين) صاحب الابتسامة الصفراء، التي لا اعتقد أن معجون الأسنان (هوّب صوبها).

فزع صاحبي من أسئلتي، التي عرف أن وراءها ما وراءها من تصميمي المستميت في رمي نفسي بالتهلكة، فصرخ بوجهي قائلا: هل أنت مجنون حتى تفكر في مثل هذا التفكير؟! قلت له: إنني لم اصل بعد إلى مرحلة الجنون ولكني (قاب قوسين أو أدنى) منها، إنني الآن في مرحلة جمع المعلومات، والتمارين النفسية استعداداً لساعة الصفر.

قال لي اهدأ، اهدأ، ولتكن رجلا (لا قرقعانة)، سألته ما هي القرقعانة؟! فقال: إنها (الشخشيخة)، أو لعبة الأطفال.. والموضوع كله لا يستاهل كل هذا التوتر، وتشمير السواعد، واستعراض العضلات، انك تستطيع بشكل أو بآخر بالمفاهمة (أن تدهن السير ويسير)، قلت له: إنني لا افهم، قال: يا أخي يعني (حك جحوش)، قلت له: هذه ألعن وألعن أرجوك وضح كلامك ماذا افعل؟! قال عليك أن تحك للموظف وهو يحك لك مثلما تفعل الحمير لبعضها البعض، عند ذلك نفد صبري وشعرت بالإهانة، فوقفت منهياً الحديث معه، غير انه أمسكني من يدي وأجلسني مرة أخرى قائلا: آسف إنني لا أريد أن أضايقك بكلامي، ولكن افهمني، فالحمار يستطيع أن يحك جميع أعضاء جسمه، ما عدا ظهره، لذلك كلما التقى حماران اخذ كل منهما يحك ظهر الآخر بأسنانه بحكم الغريزة، ولهذا استنبط إخواننا أهل لبنان من تلك الظاهرة ذلك المثل القائل: الدنيا حك جحوش، حكلّي واحكلّك.

عندها ارتحت قليلا، وسألته: هل تقبل أن أفوضك نيابة عني لتقوم بعملية (الحك) هذه (لسدادة الفلين)؟! فوافق وما هي إلا عدة أيام وإذا به يحضر لي المعاملة موقعة ومنتهية، عندها طلبت منه أن يفتح فمه ويريني أسنانه، وهالني إنني وجدتها محفوفة فعلا من شدة الحك.

[email protected]