ما بعد القمة العربية: (الصلابة الناجزة).. بعد (المرونة الواسعة)

TT

أول ما يفد الى الذهن ـ من تقويم قمة الرياض العربية ـ: ان العرب يمكن ان (يفعلوا شيئا)، بمعنى ان الخروج مما هم فيه من كرب وبلاء واضطرابات ليس مهمة مستحيلة.. هذا الاستنتاج الأولي جد مهم ـ على فرطه في البساطة ـ .. لماذا؟ لان هناك من تعجل بـ (نعي العرب) من غلاة اعدائهم، بل هناك من فعل ذلك ممن ينتسبون الى العروبة ويحملون اسماء عربية: منهم ساسة ومثقفون واعلاميون. فقد جرى على ألسنة هؤلاء واقلامهم (التشكيك في كل شيء عربي): الثقافة والشخصية والهوية واللغة.. الخ. وعلى نحو يتعمد غرس المفهوم التالي في الوجدانات والعقول: «العرب لن يصلحوا لشيء ولن يفعلوا شيئا ولذلك لا بد من احتلال اجنبي يدخلهم عصور التنوير». وبديه ان هذا الطرح يخدم ـ بالتواطؤ لغباوة ـ: النظرية الصهيونية التي تقول ـ للغرب وغيره ـ لا تتعبوا انفسكم في الضغط علينا من اجل العرب. فهم قوم اهون ما تتصورون، وليسوا اهلا لتحمل مسؤوليات مدنية وحضارية وسياسية حتى نعاملهم: ندا لند.. وهذه النظرية الصهيونية المتطرفة تقف وراء السلوك الاسرائيلي في التعامل مع العرب باستخفاف وازدراء، والاستمرار في هضم حقوقهم.. ومن المحزن: ان تجد هذه النظرية العنصرية مجالا لها في تفكير ساسة ومثقفين واعلاميين عربا: اخطأوا التفكير، او كفروا بأمتهم.

بعيدا عن المبالغة نقول: ان قمة الرياض اثبتت: ان العرب يمكن ان يفعلوا شيئا، وهو اثبات يحمل القادة العرب مزيدا من المسؤولية: مسؤولية ان الرخاوة والتهاون يفتحان اوسع الابواب امام تهمة: ان العرب (امة عدمية).. ومسؤولية ان سد هذه الابواب والذرائع لا يتحقق الا بالعمل الجاد الصادق الجماعي على ارض الواقع.

ما اسباب هذا النجاح في قمة الرياض؟

نحن نؤمن بالله جل ثناؤه، ومن مقتضى الايمان والتوحيد: رد الفضل الى ذي الفضل العظيم تبارك اسمه: «وما بكم من نعمة فمن الله». عون الله وتوفيقه هو السبب الاعظم.. اما الاسباب الأخرى فهي:

1 ـ الثقة بالداعي الى المؤتمر وهو الملك عبد الله بن عبد العزيز، فهو رجل موثوق الذمة والضمير والكلمة والموقف، في زمن ندرت فيه هذه الخصال الحافزة على الاطمئنان والثقة.

2 ـ الثقة بالبلد المضيف: المملكة العربية السعودية، فهي (بيت العروبة) الذي يجد فيه كل عربي محضنا دافئا وملاذا آمنا، وذمة لا تخفر عهدا، ولا تنقض موثقا.. ثم هو بلد يمكن ان يوصف دون ادنى غلو بأنه (السند التاريخي والواقعي لقضايا العروبة)، بموجب فلسفة راسخة ساطعة اوجزها الملك عبد العزيز في قوله: «انا عربي واحب قومي، والتآلف بينهم، وتوحيد كلمتهم، وابذل في ذلك مجهوداتي. ولا اتأخر عن القيام بكل ما فيه المصلحة للعرب، وما يوحد شتاتهم، ويجمع كلمتهم».

3 ـ (الحاجة الموضوعية الشديدة) الى مخرج للعرب مما هم فيه من أزمات متعددة الصور، ثقيلة الضغط، ذلك أنه من مقتضى التحديات: أن تجمع ـ الذين تشملهم بعتوها ـ: على مواجهتها: بالحس الغريزي، ان لم يكن بالتفكير العقلاني. فالحشرة ذاتها عندما احست بالخطر العام على بني جنسها، أو على أمتها، فعلت شيئا من أجل اتقاء الخطر العام: «قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون».. بيد ان في العرب عقولا تفكر، بالاضافة الى الغريزة الجبلية الدفاعية المودعة في كل كائن حي.

4 ـ وكّدت الاحداث الجسام تهافت فكرة (النجاة المفردة)، ببرهان: ان ما يجري في العراق.. ولبنان.. وفلسطين، يرسل شواظه إلى كل عربي: في هذه الصورة أو تلك.

هذه هي ـ باختصار ـ ابرز الاسباب التي أدت الى نجاح قمة الرياض. أو أدت الى فعل ما هو (ممكن) في هذه الظروف العصيبة.

ولكن ما هو هذا الممكن الذي تحقق؟.. هو ـ مثلا ـ:

أولا: (المصالحات) البينية أو الثنائية. وهذا انجاز كبير. فليس يتحقق عمل ايجابي ما، في مناخ التشاحن، والتناكر، والتدابر.

ثانيا: دفع (الأمن القومي) إلى مقدمة الاولويات.. وهذا تقدم بلا ريب.. ففي عصرنا هذا ـ على وجه التخصيص ـ لا يتصور (أمن وطني) معزولا عن الأمن الاقليمي أو القومي.. هذه واحدة.. والأخرى: ان العزم على العمل الاقتصادي والثقافي والسياسي المشترك يتعذر ـ بل يستحيل ـ في ظل فقدان الأمن القومي المشترك.

ثالثا: تجديد الاحساس والوعي بضرورة (الاعتصام بالهوية الثقافية والحضارية للعرب). فقد ركز (إعلان الرياض) على:

استلهام القيم الدينية والعربية لتعزيز الهوية العربية ومقوماتها الحضارية والثقافية وتحصينها ودعم مرتكزاتها وترسيخ الانتماء اليها في قلوب الاطفال والناشئة والشباب بحسبان ان العروبة ليست مفهوما عنصريا، وانما هي هوية ثقافية موحدة تؤدي اللغة العربية وظيفة المعبر عنها الحافظ لتراثها، في اطار حضاري مشترك قائم على القيم الروحية والاخلاقية والانسانية: يثريه التنوع والتعدد والانفتاح على الثقافات الانسانية الاخرى، في مواكبة للتطورات العلمية والتقنية المتسارعة دون الذوبان او التفتت او فقدان التمايز.. وتعلو قيمة هذا الاتجاه بالنظر الى الحملات الثقافية والفكرية والاعلامية التي تكثفت وزاد ضرامها ـ ولا سيما بعد احداث 11 سبتمبر 2001 ـ مستهدفة ـ بضراوة غير مسبوقة ـ طمس أو ـ على الاقل ـ التشكيك في الهوية الثقافية والدينية والحضارية واللغوية للعرب من خلال اتهام هذه الهوية بأنها منبع الارهاب وصانعته، وكأن هتلر وموسوليني وستالين وقاتل ابراهام لنكولن، ومفجر المبنى الاتحادي في اوكلاهوماستي.. كأن هؤلاء ـ ونظائرهم كثر هنالك ـ: من قبائل عدنان او قحطان، او كأنهم مسلمون!!

رابعا: من الممكنات التي باشرتها قمة الرياض: التمهيد الموضوعي لعلاج مشكلات حادة ومتأججة عبر مداخل معقولة وواقعية.

خامسا: اعادة طرح (مبادرة السلام العربية) كما هي. ورفض الاهواء الصهيونية التي تريد تعديلها، والتي تريد ـ كذلك ـ تطبيعا يسبق انسحابهم من الارض الفلسطينية والعربية التي احتلوها عام 1967.. ومن المؤكد: ان هذا مستحيل.. لماذا؟.. لأن العقلية التي تفكر بهذه الطريقة لن تنسحب من الارض المحتلة بعد (التطبيع المسبق)، فبطريقة التفكير ذاتها: ستقول اسرائيل: لقد حصلنا على افضل مطالبنا. فلماذا نضطر للانسحاب؟!. ثم ان هذه الطريقة في التفكير تنطوي على استغفال للعرب، واحتقار لعقولهم.. والغريب العجيب المريب: ان الادارة الامريكية تفكر بذات الطريقة!!

ولنخصص ما بقي من سياق المقال لهذه القضية الجوهرية الكبرى.

ان العرب بموافقتهم على مبادرة السلام العربية وتبنيها كانوا (مرنين) إلى أقصى حدود المرونة.. بمعنى ان من يطالب القادة العرب بمزيد من التنازلات فإنما يطالبهم بخيانة أنفسهم وقضيتهم، أو يطالبهم على أقل تقدير بالتفريط فيما لا يمكن ولا يجوز ولا يصح التفريط فيه وهو: الارض التي احتلتها اسرائيل عام 1967. فهذا التفريط ليس إهدارا للحق العربي فحسب بل هو تقويض لـ (الشرعية الدولية) التي انتظمها ونص عليها وأصلها قرار مجلس الأمن رقم 242.

لن يلام العرب _ بعد اليوم _ أو يتهموا بـ (عدم المرونة) وهذا مدخل أو ركيزة نفسية وفكرية وسياسية واعلامية واستراتيجية للموقف التالي الذي يجب أن يقفه القادة العرب بثبات وشرف وتصميم.

(موقف الصلابة الناجزة).. بعد موقف (المرونة الواسعة) إن أحد أسباب (التمرد الاسرائيلي) على قيم الحق والعدل كافة.. وأحد أسباب الانحياز الأمريكي الجائر إلى الباطل الاسرائيلي هو الموقف العربي (الهش الرخو المائع).. ونتحدث ها هنا عن الموقف الإجمالي، لا عن الاستثناءات.

البديل المكافئ لهذا الموقف الرخو المائع هو (الصلابة السياسية العربية).

إن (الصلابة العربية) هي العمل المشروع والمتاح والمجدي. فطالما ان الحرب غير مندلعة مع اسرائيل (مع التوكيد على عدم استبعاد الحرب من الجانب الاسرائيلي، فإن الصراع قد تركز في (السياسة).. ولئن استبعد الرصاص من السياسة ـ بحكم أدواتها وخصائصها ـ فليست تستبعد منها لوازم أخرى ضرورية ـ في الحرب وفي السياسة ـ مثل: شجاعة القلب.. وقوة الإرادة.. وثبات النفس.. وذكاء المناورة.. وسرعة الحركة.. وتكثيف القصف (القصف السياسي والإعلامي).. والتصميم على التفوق والنصر.

والصلابة السياسية هي العمل الممكن والواجب والمجدي في التعامل مع الولايات المتحدة: ابتغاء أن تستعيد هذه الدولة الضخمة توازنها السياسي في موقفها من العرب، أي موقفها تجاه مبادئهم وقضاياهم ومصالحهم، وإلا كيف تكون دولة صديقة؟.. وكيف تصدق دعواها في دعم (المعتدلين العرب)؟!!

ليس من العرب من يهدد المصالح الأمريكية (باستثناء قلة ضئيلة اسهمت امريكا نفسها في صنعها بادئ ذي بدء).. ليس من العرب من يهدد المصالح السياسية والأمنية والاقتصادية للولايات المتحدة. وهذا منطق قوي: يصب الصلابة في الإرادة العربية صبا.. ويزداد هذا المنطق قوة: بالمقارنة.. فبينما يحرص العرب على المصالح الأمريكية: أخذا بمنهج تبادل المنافع ـ حتى مع اليهود غير الظالمين وغير المعتدين ـ: نجد المؤسسة الصهيونية في ـ اسرائيل وخارجها ـ تضحي بمصالح امريكا في سبيل أهوائها ومعتقداتها الأسطورية.. وأن تتعامل مع أمريكا وأنت موقن بالحرص على مصالحها ـ وهي لا تستطيع نفي ذلك ـ. فهذه حقيقة تسوغ الصلابة السياسية في التعامل مع الامريكيين، وهي صلابة خليقة بأن تعيد التوازن المفقود إلى السياسة الامريكية.

ثم ان الصلابة السياسية المطلوبة ليست تشنجا نفسيا، ولا صياحا عاليا يتسبب في (الذبحة الحلقية). وإنما الصلابة المقصودة هي: الموقف الصلب القوي الراسخ البصير الطويل النفس المفعم بالحركة المتنوع الوسائل والأساليب المترع بالقدرة على التحدي (الاضطراري) الذي ليس منه بُد.